بعد دقائق على خروج الرئيس الاميركي باراك اوباما معلنا انه يريد تنفيذ «ضربة عسكرية محدودة الى سوريا»، ولكنه ينتظر «موافقة الكونغرس»، تنفس عسكريون وامنيون من مواقع قيادية رفيعة جدا في الغرب، الصعداء. لاحظوا ان مبدعي البيت الابيض أوصوا رئيسهم بانه مضطر الى التراجع خطوتين الى الخلف، وان بمقدوره رفض المساعدة الروسية والطرف الاخر، والذهاب نحو الكونغرس الذي سيعطيه السلّم الذي يناسبه للنزول عن الشجرة.
لكن هؤلاء، لا يهتمون لكل ما يرد في تقارير الجهات الدبلوماسية، ولا في برقيات وكالات الاعلام العالمية. هم يعرفون انهم عاشوا خلال ثلاثة ايام اسوأ اللحظات منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو.
قبل وقت غير قصير على العملية الاستخباراتية التي قام بها رجال اسرائيل والسعودية، والتي شهدت استخدام اسلحة كيميائية في الغوطة الشرقية، كان الاميركيون ومعهم اوروبا، يناقشون الروس والايرانيين في تسوية سياسية للازمة، انطلاقا من اقرارهم بفشل مشروع اسقاط النظام بالقوة. لكنهم كانوا يطلبون امرا واحدا: ابعاد بشار الاسد. ووصلت العروضات من قبلهم الى حدود مبازرة الروس بان يختار الاسد نفسه من يخلفه في تولي قيادة الفريق الذي يمثله، وان يخوض هذا الشخص الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ناقش الروس الامر من زوايا مختلفة، وأجروا مشاورات مكثفة مع القيادة الايرانية، وعادوا وأبلغوا الغربيين بأن لا مجال لأي بحث في هذا الامر. عندها سمعوا من الغربيين ان هذا الجواب يعني اطالة امد الصراع، ورفع سقف الدعم للمجموعات المسلحة الى حدود فتح مستودعات الاسلحة النوعية، وتدفق المال وانشاء معسكرات تدريب خاصة. ثم تولى «الولد السعودي» التعبير بزهو عن تكليفه بجانب رئيسي من هذه المهمة. وانطلقت مهمة اعادة تنظيم الكتائب المقاتلة في صفوف المعارضة، بما في ذلك، اتاحة تغطية لقناة تواصل جدية وعملانية بين رجال بندر وبين تنظيم القاعدة («النصرة» و«دولة الإسلام في العراق والشام»).
كان الهدف يقوم على توفير جهوزية تتيح توجيه ضربة قوية للنظام في دمشق، في منطقتي الشمال والجنوب، والشروع في عملية تصعيد دموي ضد حزب الله في لبنان، وتكثيف عمليات الاغراء لضباط في الجيش السوري من اجل الانشقاق.
لكن المحور المقابل، لم يكن على علم بالامر فحسب، بل كانت لديه خططه الامنية والعسكرية لحماية المنجزات التي حققها الجيش السوري بالتعاون مع حزب الله في اكثر من منطقة سورية. وللبدء بخطة توسيع دائرة شبكة الامان الخاصة بالعاصمة دمشق، وبعض مناطق الوسط والساحل. وهو ما اثمر عمليات عدة، توجت بقرار «درع العاصمة» التي انطلقت في العشرين من اب الماضي في كل ريف دمشق الجنوبي والشرقي.
عندما ادرك الطرف الاخر الامر، وبعد فشل «غير مفهوم» بالنسبة للمعارضين في ريف اللاذقية، وجد هؤلاء ان لا مجال لتغيير نوعي الا من خلال اللجوء الى عناصر خارج تلك الموجودة على الارض. وكانت الوصفة، بأن يتم توفير الذريعة المناسبة لقيام حملة دولية واسعة تتوج بعملية عسكرية ضد النظام في سوريا. وعملت الاستخبارات الاسرائيلية على دعم «رجال بندر» في سوريا على تنفيذ «مجزرة الكيميائي» في الغوطة. وخلال اقل من ساعة، انطلقت الماكينة الاعلامية ثم السياسية ثم الدبلوماسية، لتحضير الارض لارفع تدخل عسكري خارجي في سوريا، من خلال عملية تشنها الولايات المتحدة بمشاركة دول من اوروبا اضافة الى تركيا ودول عربية.
عندما وافق الاميركيون، انطلقوا من معطيات تفيد بان سطوتهم على العالم تتيح لهم تحصيل الاثمان حتى قبل الشروع في العمل. وما ان انطلق الكلام عن «ضربة عسكرية» يعد لها، حتى انطلق الموفدون الى طهران وموسكو. وكانت الرسالة مقتصرة: قدموا التنازل السياسي الان، او سنأخذه منكم بعد ضربة تنهك نظام الاسد.
في الجولة الاولى من المفاوضات، فوجئ الاميركيون ببرودة روسية لافتة. وبكلام ايراني لافت وان كان بصوت خافت. لكن جوهر الموقفين، ان روسيا وايران لا تجدان اي سبب يدفعهما الى تقديم تنازلات في الملف السوري. وترافق الامر مع ابلاغ الرئيس الاسد كل حلفائه بأنه غير مستعد لاي تنازل، وانه قرر المواجهة.
في الجولة الثانية، رفع الاميركيون من سقف التهويل. باشروا ارسال الحشود العسكرية، واطلاق اوسع عملية تحرك للقوات البحرية، ولقواعد جوية في دول محيطة بسوريا. وترافق ذلك مع تنشيط ماكينة الضغط النفسي من خلال الاستخبارات ووسائل الاعلام وكل الجهاز الدبلوماسي. وابلغ الاميركيون روسيا وايران ان القرار بالعملية العسكرية جدي وليس للتهويل فقط.
ومرة جديدة، جاء الجواب أكثر احباطا للجانب الاميركي. قال الروس انهم لا يعتقدون ان عملية عسكرية يمكنها ان تفيد في تغيير الوقائع، وحذروا الاميركيين من ان عدوانا سيقلب الطاولة فوق رأس الجميع. اما ايران، فرفضت مبدأ النقاش في ما اسماه الغرب «معاقبة الاسد وتأديبه». وابلغت طهران الوسطاء والموفدين، بان اي عدوان على سوريا يعني فتح معركة واسعة النطاق والمسارح.
وبينما كان الاميركيون ومعهم اوروبا ودول المنطقة يعملون على تنشيط الماكينة العسكرية، لجأت اسرائيل الى مستوى من الاستنفار الدفاعي – الهجومي، وذلك لمواكبة العدوان، اما حصادا، او مشاركة في حال توسع رقعة المواجهة. لكن تل ابيب كانت اقل قلقا من احتمال المواجهة، لان الاميركيين قالوا انهم ابلغوا روسيا وايران ان العملية العسكرية هدفها تغيير التوازنات للذهاب بمعطيات جديدة الى المفاوضات.
وخلال الايام الاربعة الماضية، رفع الغرب من وتيرة الاستعداد. وتسربت كل المعطيات الضرورية عن بنك الاهداف، وعن حدود العملية وعن استعداد المجموعات المسلحة لخطة هجوم واسعة ترافق العدوان الاميركي. وعند هذه اللحظة، برزت الى السطح، وفي سابقة لافتة، غرفة عمليات سياسية ودبلوماسية وعسكرية وامنية، تمتد من موسكو الى طهران فدمشق والضاحية الجنوبية في بيروت. وكان واضحا بالنسبة للجميع ان العملية الغربية تستهدف اسقاط النظام او تسهيل اسقاطه، وفي الحالتين، تمثل الانذار الابرز، ما يعني ان على هذا المحور العمل بقوة لمنع تحقيق العدوان هدفه.
بناء على هذا التوجه، تقرر اعلان الاستنفار العام. روسيا اعطت اوامر الى عسكرها الموجود قبالة السواحل السورية بالاستعداد لمواجهة جدية. ايران اعلنت الاستنفار العام لقواتها البحرية والصاروخية وسلاج الجو. الجيش السوري نشط الفرق التي لا تشارك في المواجهات القائمة على الارض. واقام وحزب الله غرفة عمليات ميدانية تمثلت في وضع القوة الصاروخية على اختلافها في حالة جهوزية غير مسبوقة، وترافق ذلك، مع دعوة المقاومة الاسلامية جميع كوادرها وعناصرها الى الالتحاق بمواقعهم، وكان الابرز في كل ما جرى، تفعيل القوة الصاروخية في كل المنطقة.
ومع اكتمال الجهوزية، وازاء الالحاح الاميركي على تنفيذ الضربة ولو شكليا، اضطر محور المقاومة وبعلم روسيا، الى «اظهار بعض الاشياء على الارض وفي البحر، وفي اكثر من منطقة حساسة بالنسبة للاميركيين»، ثم ارفق ذلك برسالة الى الاميركيين وحلفائهم واضحة وموجزة: ليس عندنا ما يسمى ضربة محدودة او رمزية او شكلية، واي صاروخ يعبر الاجواء السورية، يعني انطلاقة اوسع حرب شاملة، فيها مستوى عال من الاستعداد حتى لدرجات من الجنون.
كان على الجميع احتواء الموقف. في اوروبا، هناك بيت خبرة عتيق، اسمه الان بريطانيا، حيث جاء الترياق لحكومة ديفيد كاميرون من مجلس العموم، الذي سهل له الخروج من المأزق، فلا اوقعه في حالة تخاذل ازاء حليفه الاميركي، بأن تركه مصرا على العدوان ومدافعا عنه، لكنه كبله بطريقة تمنعه من المغامرة.
ومع تسارع كرة الثلج المترددة والخائفة من تدحرج الامور نحو ما لا يحمد عقباه، كان على الادارة الاميركية ايجاد المخرج الآني، اي اتخاذ قرار عاجل بتأجيل الضربة ريثما يصار الى مناقشة المعطيات بطريقة مختلفة واتخاذ القرار النهائي. وفي كل مرة يجد «العالم الحر» حيلته، وهذه المرة استفاق الى «اهمية الانصات الى الرأي العام». هذا الرأي العام الذي لم يعارض كل الجنون في العقود الثلاثة الماضية.
وخلال دقائق قليلة، اضطر رئيس اميركا الى اظهار بعض التواضع الغريب عن ادارته، واعلان العجز عن التحرك احاديا لتقرير مصير العالم، ورمي الكرة في ملعب الجميع من حوله.
اليوم، تم توضيح المعنى العملاني للفكرة المكرسة منذ عشر سنوات على الاقل، والتي تقول ان «اميركا قادرة ولكنها ليس قدرا». واليوم، فتح الباب امام توازن عالمي جديد. صحيح انه من الضروري مراقبة انعكاس ذلك على الازمة السورية مباشرة، لكن الصحيح ايضا، هو وجود مراقبة أثر هذه الفضيحة على آليات قيادة العالم.
اما اوباما، الذي اعطى لنفسه اجازة لساعات او ايام او اسابيع، فلم يعد يملك ترف المناورة: اما التراجع والذهاب نحو تسوية، واما المغامرة والدخول في حرب واسعة وشاملة لا يستطيع الادعاء بقدرته على التحكم بمصيرها.
في آخر المشهد، صور لصبية الولايات المتحدة في بلادنا. مثل مجموعة الخونة العرب الذي صرفوا امس فاتورة جديدة لواهب المال الاسود، معلنين من القاهرة، تغطيتهم للعدوان. بينما كان الازهر يعلن من على بعد مسافة قصيرة، ان ضرب سوريا يمثل عدوانا على الامتين العربية والاسلامية.
وفي أسفل الصورة، يقف متهور، منافق، حاقد، ولئيم، في مواجهة مصيره. يمثل ناهبي الجزيرة العربية الذين يريدون دفع الامور نحو الحرب الشاملة، لكن فاتهم انهم سيشهدون فصلا جديدا في مواجهة الحق العربي.