فتح العراقي عينيه على حربي الخليج الأولى والثانية التي كانت من أكبر الصراعات الدموية وأعنفها. عاش في خلال تلك الفترة كمن لا يعيش، غاب عن «الحداثة»، وعانى الحصار وفرضت عليه عقوبات لم يكن له فيها ناقة ولا جمل، حرمته الغذاء والدواء، ووسائل التقدم والتكنولوجيا التي وصل إليها العالم في حقبة التسعينيات من القرن الماضي. عانى العزلة من معظم دول العالم سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، وعاش القتل والموت والدمار، ليصبح العراق في قائمة الدول الأكثر تأخراً في المنطقة، بعد أن دُمرت بنيته التحتية ودُمّر اقتصاده وتراجع مستواه الصحي والتعليمي، وعاد إلى حقبة ما «قبل الصناعة»، كما وصفه في ذلك الوقت وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر. وفي محاولته للنهوض مجدداً، جاء الغزو الأميركي ليستبيح العراق الذي لم يكن قد ستر عري خوفه ورعبه وأمنه... جاء الاحتلال وحطّم آخر ما بقي من الدولة العراقية.غياب العراقي عن الحياة وعزلته طوال سنوات الحرب 1980 – 2003، قابلها حضور لصفقات السلاح، ووسائل التعذيب، وطغيان الحكم، وهدر الموارد الطبيعية والبشرية. فكانت النتيجة أن تصحّرت الثقافة وباتت الكلمات عاجزة عن وصف الوضع الكارثي الذي وصل إليه، ولم يبق أمام العراقي من حل سوى الهجرة طلباً للنجاة.
كما كل السوريين، يعيش العراقي
في سوريا كل
يوم بيومه

«سعدون»... سمكة بعيون مفتوحة

توزع العراقيون خلال فترة الاحتلال كما السوريون اليوم، بين حامل ومحمول، هذا يبكي أباه، وذاك يندب أخاه، وتلك تولول وتنوح على زوجها. سعاد، اللاجئة العراقية، كانت أول من اصطدم بإنجازات الاحتلال، رأت أخوها يُذبح، وقعت على الأرض من فورها وانتهى الأمر.
أدخلت سعاد ولقبها «سعدون» مشفى الأمراض العقلية في بغداد عام 2003، بعد أن رأت جنود الاحتلال الأميركي يذبحون شقيقها. الانهيار العصبي الذي أصابها إثر رؤيتها المشهد الصادم والمؤلم، أدى إلى فقدانها الذاكرة لفترة مؤقتة، وأدى أيضاً إلى شلل الشريان الرئيسي المسؤول عن العين، بعدها تحوّلت سعاد إلى سمكة بعيون مفتوحة، تنام دون أن تستطيع إغماض عينيها أو حتى أن ترمشهما. لم تفقد عقلها، لكنها لم تكن تستطيع التكلم، ولم تكن مجنونة، لكنها اقتربت من حافة الجنون. كان الأطبّاء يصعقونها بالكهرباء، وهي تصرخ بأعلى صوتها، لكنها لم تكن تبكي. عاشت طوال فترة وجودها في المستشفى كطفل صغير، يبدلون ثيابها، وينظفونها. إلى جوار سعاد في الغرفة المشتركة جلس مريض على كرسي متحرّك، قامت سعاد في حركة مفاجئة من سريرها ودفعت عربة المريض بسرعة إلى بهو المستشفى، ليسقط في مسبح الماء. بدا الرجل وكأنه يغرق، وقفت سعاد أمامه تتفرّج على الغريق وهو يستنجد وهي غارقة في شرودها. اجتمع الأطباء والممرضون وسارعوا إلى إنقاذ الرجل. أمام هذا المشهد، رمشت عيون سعاد لأول مرة منذ ستة أشهر ونزلت منها دمعة استعادت بعدها عافيتها وعادت إلى طبيعتها.

قهوة العراقيين: رصيفان وممر وشوية حكي

كما كل السوريين، يعيش العراقي في سوريا كل يوم بيومه، دون أن يعير اهتماماً للمستقبل الذي غاب عن قاموسه، وأحلّ محله الكثير من الشتائم والقناعة بأن لا نهاية قريبة للنفق الذي دخله العراق كما سوريا. من أجل ذلك، كان لا بد للعراقيين وللسوريين أن يأخذوا كرسي المتفرّج بانتظار ما ستنتهي إليه شهيّة الحرب المفتوحة.
يأخذ العراقيون من شارع الخضر (في جرمانا) مقهى لهم. المقهى عبارة عن رصيفين وممر، يتناوب العراقيون الجلوس على الرصيفين، فيما يتولى السوريون العبور بينهما بحثاً عن مكان شاغر، وما إن يتوافر المكان، حتى يتجاور السوري والعراقي، نساءً ورجالاً، وتختلط أحاديث اللجوء والنزوح ونكبات الحرب.
بعكس المنجّمين العراقيين، لم تقل عبير للمتجمهرين حولها شيئاً عن المستقبل، بل أعادت سرد الماضي في حلم قصير تنبأت فيه كما قالت بما سيحدث لسوريا لاحقاً. قبل بداية الأزمة، كانت عبير تسكن في الذيابية (منطقة الست زينب)، حلمت بأن جماعات من الناس تعمّر في جوامع حارتها التي تسكنها، ورأت شقيقها من ضمن الجماعات التي تشارك في بناء الجوامع. تضيف عبير: جاءني في الحلم صوت من الجامع يقول لي: «أخوك هذا سيكون من الشهداء». بعد بدء الأزمة في سوريا، وتحديداً يوم 2012/9/2، تقول: دخل الجيش الحر منطقة الست زينب وهاجم منزلنا الذي كنت أسكنه مع أخي وعائلته، جيراننا في الحي قادوا الجيش الحر إلى منزلنا، أخبروهم أننا «عواينية» للنظام باعتبارنا من طائفة أخرى، أطلقوا الرصاص على رأس أخي وسقط من فوره. تختم عبير: «في ذلك اليوم، نادى الشيخ اسم أخي شهيداً من الجامع، وتحقق المنام، لم يكن مناماً، لقد كان كابوساً».

مقبرة الغرباء

منعت تكاليف النقل المرتفعة بين سوريا والعراق العراقيين من دفن موتاهم في بلدهم. لم تكن لديهم الإمكانية لتسديد النفقات ودفع الأجور، والسفارة العراقية بدورها لم يكن لديها إمكانية المساعدة، ما اضطر العراقيين إلى أن يتقاسموا السوريين مقابرهم كما خبزهم وأسرّتهم.
تقع مقبرة الغرباء الخاصة بالعراقيين خلف مقام السيدة زينب، سميت بهذا الاسم إشارة إلى المنفيين منهم الذين سكنوا دمشق منذ عام 1975. في زحمة القبور وارتفاع الشواهد وكثرة الكلام المكتوب، تتعثر الذاكرة وتوشك أن تقع أمام الموت المحتال الذي خطف كل هؤلاء والذي أبغضه الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري كل البغض فكتب على قبره:
أنا أبغضُ الموت اللئيم وطيفه بغضي ضيوفَ مخاتلٍ نصّابِ
ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبه دمُ إخوتي وأقاربي وصحابي
يتميز قبر الجواهري المصنوع من المرمر الإيطالي بشاهدته التي رسمت عليها خريطة العراق وفي وسطها عبارة تقول: «أنا العراق لساني قلبه، ودمي فراته، وكياني منه أشعار». إلى جانب الجواهري، دفنت زوجته أمونة التي فقد برحيلها جزءاً منه، فأطال شعره ولحيته، وأوصى بأن يدفن إلى جانبها، مؤكداً في وصيّته: «أريد أن أدفن في دمشق حتى ولو تغيّر نظام الحكم في بغداد، بغداد وطني ودمشق وطن الأمة». تعود علاقة الجواهري بدمشق إلى العشرينيات حين زارها لأول مرة وأنشد في الثورة السورية: «ثوري دمشق فإنما نيل الأماني في المطالب».
على قبر زوجها، عبد الرزّاق عبد العزيز الناصري أبرز صحفيي البصرة في النصف الأول من القرن العشرين (1939 -2007) كتبت ليلى البياتي رسالة عتب لحبيب أخذه النوم وغفا دون أن يعلّمها كيف تحتمل فراقه: «ثلاثون عاماً وأكثر، تقاسمنا خلالها مرارة الحياة قبل حلوها، ثلاثون عاماً لم نفترق يوماً، كنت لي فيها الأب والابن، الزوج والحبيب، ثلاثون عاماً علمتني خلالها الحب، أمنحه لكل من دخل بيتنا الصغير، علمتني كيف أتسامح مع الذين أساؤوا لنا، علمتني الشجاعة لأتحمل قساوة الغربة التي استنزفت أجمل سنوات حياتنا، شيء واحد لم تعلمني اياه، ذلك هو كيف أتحمل فراقك».
تضم المقبرة قبر العلامة مصطفى جمال الدين الذي لا يزال قبره إلى الآن يحظى بالنصيب الأكبر من الزيارات، وقبر الفنان المسرحي راسم الجميلي (1938 – 2007)، الذي وجد الدفّانون صعوبة في دفنه بسبب ضخامته، كما أخبرنا المسؤول عن المقبرة. وتضم أيضاً قبر الكاتب مهدي علي الراضي.
توزّع من بقي من العراقيين المجهولين على مقابر دمشق. لا يعرف المسؤول الحالي عن مقبرة الدحداح (مقبرة قوى الأمن الداخلي) في شارع بغداد شيئاً عن زكي خيري، الذي كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، والذي دُفن في هذه المقبرة بناءً على رغبته. كذلك لا يعرف الشهداء في مخيم اليرموك أن أحد الضباط الأحرار في ثورة 1958 التي قام فيها عبد الكريم قاسم ضد الملكية في العراق قد دفن أيضاً في هذه المقبرة. لا يعلم كذلك أن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب عندما كتب قصيدته «المومس والعمياء» لم يكتبها للعراق فقط، بل كتبها لسوريا أيضاً. نبوءة السيّاب سبقت سنوات التصحّر في العراق، وسبقت إعدام الوعي في سوريا، في مجتمع بات يتعايش فيه الموت مع الحياة في كل عقل وقلب وحي.