إذا كان الاحتكار السياسي يشكّل أحد موجبات التغيير الوطني الديموقراطي، فإن العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة ومكافحة الهدر والفساد وسياسات الإفقار تشكّل جوهره. خلال سنوات طويلة عُمل على نحو واضح، رغم إخفاء هوية الرؤية الاقتصادية الجديدة بغربال السمة الاجتماعية، إلى تحرير الاقتصاد والأسواق والأسعار والتجارة. سياسة اعتمدها الفريق الاقتصادي المدفوع من قبل النافذين وأصحاب الرساميل كقاطرة للنمو بديلاً من الإنتاج السلعي الصناعي والزراعي الذي يشكّل جوهر التنمية.
وكانت هذه السياسات متزامنة مع خفض الإنفاق العام (الجاري والاستثماري) وتراجع دور الدولة الاجتماعي والتنموي في سياق كان يُخفَض فيه دور الدولة في الناتج الإجمالي أمام تصاعد حصة القطاع الخاص.

تقلّص حجم الدولة

لقد تقلص حجم الحكومة في الناتج الإجمالي، من 48،2% عام 1980 إلى 41% عام 1984، وإلى 25% بين عامي 1985 و1998. وبالتأكيد، إنّ حجم الحكومة في اللحظة الراهنة هو 22%.
لقد أسّس تحرير الاقتصاد لأزمة اقتصادية واجتماعية وإنسانية يكتوي بنيرانها غالبية السوريين. فقد تجلت سياسات التحرير الاقتصادي في ارتفاع معدلات الاحتكار، حيث وصل معدل الاحتكار إلى أن 7% يتحكمون بـ75% من الناتج القومي الإجمالي، بينما 75% من المجتمع السوري يملكون أقل من 25%. وقد حذرنا مع كثير من الاقتصاديين والخبراء والمتخصصين من خطورة هذه السياسات. لكن حتى في ظل الأزمة الراهنة التي تطحن الحجر والبشر، فإن ما يُتَّخَذ من سياسات اقتصادية ومالية يصب في مجرى تحرير الاقتصاد. وما يزيد من حدة الأزمة، هو أن كثيراً من المسؤولين كان وما زال يدافع عن سياسات عبد الله الدردري. وهؤلاء يعلمون قبل غيرهم أن تلك السياسات هي التي دقت المسمار الأخير في نعش الاقتصاد السوري الاجتماعي.
وكان هذا الميل واضحاً في المؤتمر الاقتصادي الذي عُقد نهاية عام 2011. كذلك يجب التنويه بأنّ تحرير الاقتصاد لم يكن من بنات خيال السيد الدردري، بل كان تلبية لمصالح أصحاب الرساميل الذين اغتنوا بفعل نهب الشعب والدولة، (لكن بعد تقلّص منافذ النهب والإثراء غير المشروع، فإن هذه الفئات رأت أن الهيمنة على مفاصل الاقتصاد والتحكم بمراكز صنع القرار يشكّل المدخل الوحيد لاستمرار تدفق المال).
وأيضاً كان تعبيراً عن وصفات إجماع واشنطن وصندوق النقد والبنك الدولي، التي كانت تؤكد ضرورة رفع أسعار حوامل الطاقة دون النظر إلى آثار ذلك على ارتفاع أسعار المواد الأساسية لمعيشة الأسرة السورية، التي تقدر بأكثر من 300 سلعة. وكذلك دون النظر إلى نتائج ارتفاع سعر المحروقات على الصناعة والزراعة، وعلى قدرة الإنتاج الوطني التنافسية في الأسواق العالمية، ومدى صموده أمام الغزو السلعي الخارجي، الذي شكّل تهديداً حقيقياً للصناعات الوطنية التي لم يجري تحصينها وحمايتها قبل اعتماد تحرير الاقتصاد والتجارة الداخلية والخارجية. وتزامنت قرارات رفع أسعار حوامل الطاقة مع فتح الأسواق على الاستثمار الخارجي وتحرير التجارة الخارجية والداخلية والاندماج بالاقتصاد العالمي، دون حساب نتائج هذه السياسات على الاقتصاد الوطني والمجتمع الذي يعاني فقراً وبطالة لم يشهد لها مثيلاً من قبل.
وفي ذات السياق، كان يجري تأكيد خفض الإنفاق العام ورفع الدعم عن المواد الأساسية. كل هذا كان يحصل بذريعة خفض عجز الموازنة الكلي الذي كان 4،66% عام 2005، بينما نسبة العجز من إجمالي الناتج المحلي لم تنخفض في أسوأ التقديرات عن 5%، كما كان متوقعاً في عام 2007، وكان فعلياً عام 2005 (4،4%).
وهذه النسب ضئيلة مقارنةً بما كان يروج له الفريق الاقتصادي في سياق ادعاءاته بأن الاقتصاد السوري على حافة الانهيار، إن لم تبادر الحكومة سريعاً إلى رفع سعر المحروقات ورفع الدعم عن المواد الأساسية. وكان يدّعي الفريق الاقتصادي أن هذا العجز ناتج من دعم بعض المواد الأساسية ومنها المحروقات.
وللعلم فإن نسبة الدعم بالنسبة إلى الموازنة العامة للدولة راوحت بين 2،3% ــ 2،6% ، فيما كان يُهدر ويُنهب من المال العام ما يفوق هذا المعدل. وتناسى هؤلاء أنّ أصحاب مبدأ التحرير الاقتصادي لم يتخلوا في بلدانهم يوماً عن دعم بعض قطاعات الدولة الأساسية. وقد بات واضحاً أنّ استبدال الهوية الاجتماعية للاقتصاد السوري بسياسات التحرير الاقتصادي، أسّست لاعتماد النظام على حوامل اجتماعية هشّة (تجار ومستثمرين، ومقاولين) بديلاً من غالبية شعبية كانت تشكّل الخزان الرئيسي والحامل الأساسي للنظام السياسي واقتصاده الاجتماعي الذي كان للدولة دور أساسي فيه. وكان يحصل هذا التحول في سياق إفقار الشعب السوري وإهمال مصالحه الأساسية والضرورية.
وهذا يستدعي التنويه إلى السلبيات والتناقضات التي سادت حقبة تحكّم الدولة بالسياسات الاقتصادية، والتي كان من تجلياتها تثبيت الأجور وإهمال القطاع العام وسيطرة البيروقراطية والروتين والفساد وتحكم فئة من السياسيين والمتنفذين على مفاصل القطاعات الإنتاجية والخدمية الأساسية، تخسير القطاع العام وإفشاله وتخليفه بالتزامن مع نهب مقدراته، ولاحقاً تم الاشتغال على إدخاله وهو في أسوأ حالاته إلى حقل المنافسة مع القطاع الخاص. وفي الوقت الذي كان يجري فيه دعم القطاع الخاص وتوفير كافة التسهيلات له، كان القطاع العام يُهدَّم... وترافق التحرير الاقتصادي مع نهب منظم لقطاعات الدولة الإنتاجية والثروة الوطنية واعتماد سياسات اقتصادية تعمّق الإفقار والتهميش والاستقطاب الاجتماعي والطبقي.
إنّ المواطن السوري يعاني في اللحظة الراهنة عجزاً في أمنه الغذائي، وقد حذرنا من هذا قبل الأزمة، وأكدنا أن الأمن الغذائي واجب وطني قبل أن يكون مسألة اقتصادية. والأخطر من ذلك أننا ونحن على حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والإنساني لم تزل ثلة من النهّابين تحتكر قوت الشعب، وتتلاعب بحياته ومصيره. وإذا كانت القوة العسكرية المتمثلة في الجيش تشكل أحد عوامل الحفاظ على قوة الوطن وتماسكه، فإن استقرار معيشة المواطن وكرامته يشكل جوهرها. لهذا فإن إفقار الشعب يشكّل المدخل الأساس لانتهاك كرامته، والتهديد الأبرز لوحدة الوطن وقوته.
إن الارتفاع الجنوني للأسعار، وانخفاض سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الذي تجاوز عتبة الـ320 ليرة سورية، (وهذا ما فتح الباب أمام انتشار ظاهرة الدولرة)، يدلّ بداهة على ارتفاع معدلات التضخم. لكن ما ذكره حاكم المصرف المركزي أديب ميالة وبعض المسؤولين الاقتصاديين عن أن معدل التضخم يراوح بين 47% ــ 51%، وسعر صرف الليرة تراجع إلى 71،29%، وارتفاع حجم السوق الحرة إلى 145%... لا يعكس واقع حركة الأسعار وقيمة الليرة الشرائية وكذلك حجم السوق الحرة بنحو دقيق. فالأرقام التي تقارب الواقع نسبياً أضعاف ما يذكره بعض المسؤولين، وهذا يعني انفصالهم عن الواقع والمجتمع. فالزيادة على الأجور لم تغطي 15% من معدل ارتفاع الأسعار قبل تاريخ إعلان هذه الزيادة، في وقت يلاحظ فيه الجميع أن ارتفاع الأسعار يتجاوز كافة الخطوط الحمراء. وهذا يعني استمرار تفاقم الأزمة المعيشية. وفيما لا يتجاوز عدد العاملين في قطاعات الدولة 1،7 مليون عامل، يتساءل الكثيرون عن مصير غير العاملين في قطاعات الدولة ومن لا يمتلكون فرصة عمل دائمة. وهذا يفترض من أصحاب القرار توجيه اهتمامهم لكافة المواطنين السوريين.



القاتل ليس من يطلق النار فقط


تقاطعت التحولات الاقتصادية أخيراً مع صراع دموي أعمى. فالعنف الذي يطحن المواطن السوري، يتقاطع مع مصالح وأهداف واضعي السياسات الاقتصادية ونهّابي قوت الشعب ومن يغتني على أرواحهم وينتزع رمقهم الأخير دون اكتراث، بل نكاد نجزم بأنهم من يحارب المواطن السوري برغيف الخبز الذي بات توفيره حلماً للكثير من الفئات الاجتماعية، حتى أصبح خبز السوريين مغمّساً بالدم والقهر.

فالقاتل ليس من يطلق النار فقط، بل ومن يحارب الإنسان بمعيشته ويحرمه أبسط حقوقه المعاشية. ويتحقق هذا نتيجة احتكار التجار للمواد الغذائية والأساسية والتحكم بأسعارها في ظل غياب الرقابة الرسمية. إن عدم اشتغال أصحاب القرار بلجم تجار الأزمات وعجزهم عن وضع آليات حقيقية للخروج من الأزمة، تجعلهم شركاء في قتل السوريين. ومع هذا، إن سبب صمت السوريين عن تدهور معيشتهم هو إيمانهم بخطورة ما تمرّ به سوريا من تحديات، لكن صبرهم ووطنيتهم يقابلهما في الجانب الآخر عجز حكومي، واحتكار ونهب من قبل التجار والمتنفذين وأصحاب الرساميل، في مرحلة تستوجب دوراً اجتماعياً مميزاً للدولة تجاه مواطنيها، وأقل ما يمكننا قوله، تدخل حكومي لضبط الأسواق وتوفير المواد الأساسية والغذائية والدوائية بأسعار مناسبة تضمن كرامة الإنسان. إن من يحتكر المواد الأساسية والغذائية، ضارباً عرض الحائط بكافة المعايير الإنسانية والأخلاقية، لا يقل خطورة عن الوطن والمواطن عن حَمَلةِ السلاح، فالأخلاق غابت عن هؤلاء، وتحولت إلى ألد أعدائهم.