منذ زمنٍ بعيد لم تشعر بهذا الحب، ثلاثون عاماً مضت على أول لقاء جمعهما. «كان ينتظرني كل يوم عند بوابة المدرسة. خمس سنوات من الحب كانت كافية لأن أفهم أبو سمير جيداً. درسنا في ذات الجامعة، قسم لغة عربية، كانت أياماً جميلة وخاصة كما هو معروف عند أهالي مخيم اليرموك، ورغم وجود بعض العادات المحافظة، إلا أنهم يعطون الفتاة مساحة واسعة من الحرية عند دخولها للجامعة. أبي كان يقول لي دائماً «فوتي الجامعة وساوي يلّي بدك ياه.»، هذه المساحة من الحرية جعلت علاقتي مع إبراهيم تستمر هذا العمر الطويل، ولكن كما هو معروف عند الفلسطينيين أيضاً «اللحم بخاوي بعد سنة من الزواج، وبصير الزلمة ينادي زوجته: كيفك خيته؟»
«إبراهيم يعرف جيداً كيف يحب وخاصة في الأزمات»، هكذا كانت تحدث فاطمة ابنتها التي بدأت تدخل سن المراهقة. «أتمنى أن يستمر حصار المخيم أطول فترة ممكنه» بابتسامة أنثوية خجولة تضحك فاطمة مع ابنتها التي بدأت تتناوب معها على خلط الملح الصخري بمادة المازوت.
يدخل المخيم شهره السابع وهو تحت الحصار: لا كهرباء، لا طحين و لا وقود. تقودهم في هذه الأيام العصيبة ذاكرة الجدات عندما قدمن من فلسطين الى مخيمات اللجوء في سوريا. كان بابور الكاز بمثابة التدفئة المركزية لهم في تلك الفترة، ولكن النظام يمنع إدخال حتى هذه المادة الى المخيم، ما أجبر الناس على استخدام ما تبقى من مؤونة المازوت التي ادخروها قبل الحصار.
لكن المشكلة أن مادة المازوت عندما تستخدم في الحرق تنتج منها مادة سوداء قاتلة (شحبار)، لذلك كان لا بد من استخدام مادة أخرى لتنقيته ومساعدته على الاحتراق أكثر. في ذاكرة الجدات ما هو كفيل بأن يخفف من عتمة الليل التي تبدأ مبكرة هذه الأيام في المخيم.
إبراهيم وفاطمة يجلسان منذ الصباح حول وعاء كبير تفوح منه رائحة المازوت، يضعان فوق كل 10 ليترات مازوت كيلو من الملح الصخري الذي ما عاد الناس يستخدمونه، ثم يبدآن بتحريك الملح والمازوت بعصا، وفي أحيانٍ أخرى بأيديهما، وكلما يتعب واحدهما ينوب الآخر عنه في التحريك. تستمر العملية لأكثر من ساعتين، جميلة وقاسية رائحة المازوت التي تبدأ بالانتشار داخل المنزل. ينظر إبراهيم الى وجه فاطمة، ويقول لها «بحبك». وبين الملح والمازوت تردّ فاطمة «بحبك».
إنه الحصار الثاني الذي يجمعهما، الأول كان في بيروت، والثاني اليوم. في الحصار هناك وقتٌ كافٍ للحب والموت. وتحت القصف قد تمتلئ بالحياة كلها.
«في البداية كنت أرتعب حقاً عندما أسمع صوت الطائرة، أو صفير القذيفة فأهرب مع ابنتي الى أحضان زوجي. بعد وقت أصبحت المسألة أكثر جمالاً، وأكثر متعة، هو مكر النساء. أصبحت أهرب الى أحضان إبراهيم كلما ظهر صوتٌ قوي، حتى ولو كان قرقعة قطة تبحث عن طعامٍ لها على سطح البناء، حتى أنه علّق مرة «شو رأيك تبقي بحضني مو أحسن إلك؟».
تحت الحصار، لا تترك لك طائرة الميغ، ولا قذائف الهاون والمدفعية أي خيار لأن تنتظر المساء لتعرف من رحل عن المخيم ومن بقي فيه، من أصيب ومن قتل، تحت الحصار عليك أن تتفقد في كل صباح: تبدأ بتلمس جسدك، وأجساد من حولك في البداية، ثم عليك الصعود الى سطح البناء لتطمئن إلى كفايتك من مادة المازوت.
هذا ما تفعله فاطمة كل صباح بعد أن تتلمس أرواح من يسكن معها، إلا أنها اليوم بحاجة لمساعدة ابنتها في سحب مادة المازوت من برميل جارتها التي رحلت عن المخيم منذ ستة أشهر «بس ترجع بردلها اياهم، أو بعطيها حقهم» هكذا تحدث فاطمة نفسها وهي تنتظر ابنتها التي ذهبت الى سطح البناء الآخر.
هنا العملية معقدة بعض الشيء، إذ على طرف أن يضع أول الخرطوم في الخزان، وعلى الطرف الآخر أن يبدأ بسحب السائل النفاذ بفمه من الطرف الثاني من الخرطوم، وقليلة هي المرات التي لا تشرب فاطمة الدفعة الأولى من المازوت.
هذا الصباح لم تنتبه فاطمة لصوت ابنتها التي كانت تصرخ عليها من بعيد لسحب المازوت.
ـ «ماذا تفعلين يا أمي؟» تفكر فاطمة «أتأكد من عدد صحون الساتلايت على أسطح أبنية المخيم، أبحث عن قطعة ناقصة لقلبي، هناك في أول شارع اليرموك ثلاثة ساتلايتات ناقصة؟».
ـ هل تسمعين صوت القذائف؟
«لم تعد حاسة السمع تجدي يا ابنتي، أكتفي هذه الأيام برؤية ما تبقى من حمام في سماء المخيم. وأحاول الأمل كلما مررت من شارع حي المغاربة. عندما أجد النسوة هناك يفترشن الأرض أمام المنازل في كل صباح، يقطفن أوراق الملوخية، وهنّ يتحدثن عن بيارات البرتقال، وخبز التنور، وحواكير البندورة والبصل، يعشنّ ذاكرة الوطن رغم كل ما يحدث من دمار».
اليرموك بقي فيه أكثر من 100 ألف فلسطيني لم يستطيعوا الخروج منه، لا لأنهم يحبون الموت بل لأنهم جدران هذه البقعة الطاهرة، أزقته وحواريه، هم في الحقيقة أشجار الكينا الباسقة في كل شوارعه.