غزة | «إنو شو يعني بنطلع على تل أبيب وبنهيّص شوي وبنتبادل الخبرات وبصير الجو ولا أحلى. بكفي يا زلمة الواحد صار عايف حاله، خلينا نتعايش وننسى الحروب والدم. بدنا نعيش بدولة وحدة»، هكذا تحوّل ما سبق من مجرد خزعبلات أو مزحة تضرب العقل ذات مرة إلى فرض كفاية يؤديه الفلسطيني بإتقان تام ليثبت حسن نواياه عند من سَلَب روح الفرح من بيته، فقتل أخاه الأوسط بحرب «الرصاص المصهور»، وانتزع أخته الصغرى من حضنٍ دافئ قبل دقائق معدودة من الإعلان عن اتفاق التهدئة في حرب «عمود السحاب»، ليصبح هذا العدو بنظره صديقاً حميماً. لقد اصبح التطبيع واقعاً معاشاً يتشارك بإحيائه أكثر من طرف فلسطيني عن قصد أو غير قصد، ولذلك لم يعد غريباً مثلاً أن نشهد لقاءات تطبيعية ومخيمات تعايشية تحت مظلة السلطة الفلسطينية في رام الله، بل الغريب أن ينقضي أسبوعان من دون أن يسمع الراصدون للأنشطة التطبيعية عن لقاءٍ سريٍّ يجمع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في بقاع يسيطر الاحتلال عليها أو في قلب المدن الفلسطينية التي من المفترض أن تُحكم السلطة السيطرة عليها، أو ربما خارج حدود فلسطين التاريخية.
كلّ ما هو موقّع باسم سلطة رام الله اعتاد الفلسطينيون مطالعته في المواقع الإلكترونية المناهضة للتطبيع، لكن أن يقرأوا تصريحات مماثلة من سلطة غزة، فهنا الكارثة. «الهدف من مشاركة مزارعين من غزة في معرض تل أبيب الزراعي يتمثل في اكتساب الخبرات والاطلاع على التقنيات الجديدة في عالم الزراعة»، هذا ما جاء على لسان المدير العام للتسويق والمعابر بوزارة الزراعة في الحكومة المقالة، تحسين السقا، قبل حوالي شهر ونصف شهر . عجز كثيرون عن استيعاب فكرة أنّ من يمتشق السلاح للموت في سبيل فلسطين من البحر إلى النهر، يناقض ذاته ويسير في اتجاه عكسي مماثل لخصمه السياسي، عبر دعمه التطبيع بشكل غير مباشر، نافياً أن تكون مشاركة مزارعين من غزة في معرض تل أبيب الزراعي سياسية أو ضمن ما يصنف بـ«التطبيع الزراعي».
قبل أشهر، رشق حاكم القطاع المقاوم مكان استضافة المعرض بصواريخ «فجر 5» و«M 75»، فيما لم يعترض قبل فترة وجيزة على كشف أسماء المزارعين المطبّعين الذي قدمته منظمة «الفاو» الدولية له، للسماح لهم بمغادرة غزة للالتحاق بركب مزارعي الاحتلال والدول الغربية لتبادل الخبرات وعرض المنتجات المحلية الغزّاوية لفتح قناةٍ واسعة من التصدير مع الطرف الإسرائيلي.
لم تفلح وزارة الزراعة بالحكومة المقالة في تبرير موقفها أو تكذيب تصريحات المدير العام للتسويق والمعابر فيها. وزّعت بياناً صحافياً جاء فيه: «المشاركة في المعرض الزراعي اجتهاد شخصي من المزارعين أنفسهم، لاكتساب خبرات جديدة في مجالات المشاريع التنموية بغزة». لم يحمل البيان أي كلمة استهجان أو استنكار أو حتى اعتذار عن تصريحات غير مسؤولة، فبذلت الوزارة قصارى جهدها لتبرير الخطأ والأفعال غير المنسجمة مع معظم أهل غزة الكافرين بكلّ ما ينتجه عدوهم. وأكد أحد المزارعين المشاركين في المعرض لـ«الأخبار» ما نقلته الإذاعة العبرية عن مسؤول التنسيق في المعرض من قوله إن حضور غزة بالمعرض جاء بمعرفة وموافقة الحكومة المقالة، لتسويق المنتجات الزراعية المحلية وإقامة علاقات عمل حتى لو كانت على حساب الشهداء والجرحى والمعتقلين.
كذلك يبين موقع «جيش الدفاع الإسرائيلي» عدم ممانعة الحكومة المقالة للمعرض، وترحيباً بجولات المزارعين التطبيعية، فضلاً عن كشفه نيّة الاحتلال توطيد العلاقات مع أهل غزة لمحو صورة الحصار والتجويع من مخيلة العالم المتضامن مع القضية الفلسطينية.
ولم يكن هذا المعرض المناسبة الأولى التي تجمع المعتدي والمعتدى عليه. في شهر كانون الثاني الماضي شارك وفدٌ مكوّن من 30 مزارعاً غزياً في معرض زراعي مماثل أقيم في مجمع «أشكول» الاستيطاني المقام في النقب الغربي بجوار حدود القطاع. وفي حديث مع «الأخبار»، قال الصحافي العامل في «المركز العربي للتطوير الزراعي» خليل الشيخ، إن الحكومة المقالة لا يمكنها أن تعدّ مسألة المعرض تطبيعاً، بل تنسيقاً يُجبر الفلسطينيون عليه بحكم ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي وفق اتفاقية باريس. وأكد أن الحكومة على علم تام بتعاون الشركات المحلية مع الاحتلال الإسرائيلي لتصدير بعض المنتجات الزراعية كالتوت مثلاً، دون تجريم أصحابها، فيما رأت المنظمات الأهلية أن المشاركة في المعرض غير جائزة وطنياً.
ولا يقتصر التطبيع في غزة على المجال الزراعي، بل يطال الموسيقى والفنون ويستهدف الشباب بالدرجة الأولى. قبل عامين من الآن حطت قدما المايسترو الإسرائيلي دانيل بارنبوم على أرض غزة التي لم تكن قد تعافت بعد من الحرب. جاء بارنبوم غزة بدعوة من الأمم المتحدة وبعض المؤسسات الفلسطينية لقيادة أوركسترا مكونة من 40 موسيقياً في فندق المتحف، ولأول مرة في تاريخ غزة.
وفي ذات السياق، أكد أحد أعضاء الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، حيدر عيد، لـ«الأخبار» أن الحكومة المقالة نفت آنذاك السماح لموسيقار إسرائيلي بالعزف في غزة، على لسان المتحدث باسم الشرطة في حينها، أيمن البطنيجي. ومما لا شك فيه أن لا مجال لإقامة أي فعالية في البقعة الصغيرة التي تحكمها «حماس» دون أن تعلم خباياها، فكيف بها أن تنفي ما يثبته الواقع؟
وحول آليات مجابهة التطبيع في غزة، يقول عيد: «نفضح كل الأنشطة التطبيعية عبر الإعلام، ونحذّر الجهات المطبّعة من الاستمرار في هذا النهج، فعلى سبيل المثال قمنا بإرسال عدة رسائل إلى رئاسة جامعة الأقصى الحكومية، حيث يعمل ممثل المنظمة الأميركية «بذور السلام» الهادفة لتزويد القيادات الشابة القادمة من مناطق النزاع بالمهارات القيادية اللازمة للوصول للمصالحة والتعايش، عبر عقد دورات ومؤتمرات وورش عمل تعايشية لتمكين الشباب الفلسطيني من رؤية الوجه الإنساني لعدوه».
وفي العام الحالي، برز دور منظمة «صوت واحد» في غزة بين أوساط الشبان والشابات في القطاع، أملاً في حشد تأييد أكبر لما تسميه اتفاقاً شاملاً ودائماً بين إسرائيل وفلسطين يؤدي لإنهاء الاحتلال، ويرسخ الأمن والسلام لكلا الطرفين. وتشكل هذه المبادئ أساس البرامج التدريبية في قطاع غزة، تحت مسمى «مهارات القيادة والعمل الجماعي» دون أن يكون هناك أي رادع قوي يقضي على كل الأنشطة التطبيعية المتخفّية.