مَن كان يتوقّع أن ينتقل النظام الأردني، في غضون أقلّ من أشهر، من وضع القلق الداخلي والحصار الخارجي إلى وضع الاستقرار النسبي والتفاؤل الاقتصادي واستعادة مكانته وعلاقاته العربية والدولية؟
الحراك الشعبي المستمر منذ أواسط 2010 حتى أواخر 2012، وكان يهدد، بالنظر إلى تكوينه الأساسي من أبناء المحافظات والعشائر، شرعية النظام وقدرته على لجم المعارضة، انحسر فعلاً، جراء جملة من السياسات والتطورات؛ فقد التزم النظام، على الاجمال، سياسة الأمن الناعم في مواجهة آلاف المظاهرات والاعتصامات والفعاليات التي شهدتها البلاد على مدار سنتين ونصف السنة من التحرك الشعبي المعارض الذي وصل إلى شعارات ومطالبات غير مسبوقة في تاريخ البلاد. وقد تبين، بالتجربة، أن توخي السلطات عدم الانجرار إلى العنف أو الاعتقالات الواسعة والمديدة، عمل على تخفيض منسوب الاحتقان، ودفع بالنشطاء إلى الاعتدال الواقعي المقرون بهتافات غير واقعية.
سياسياً، نجح النظام في إجراء انتخابات سرعان ما اكتسبت الصدقية بسبب ما أظهره البرلمان الناتج منها من توجهات سياسية ــ كالدعوة إلى قطع العلاقات مع إسرائيل، ورفض التدخل الأجنبي في شؤون سوريا، بل والهجوم الصريح على قطر والسعودية لدورهما في إشعال الحرب السورية وتغذيتها، وتوجهات اقتصادية ــ اجتماعية مرتبطة بالأفكار التي أطلقها الحراك الشعبي لجهة وقف الهدر ومحاربة الفساد وتوخّي كبح جماح الاجراءات الحكومية التي آذت قطاعاً واسعاً من الأردنيين، فوجد في البرلمان نصيراً. وعلى المستوى التشريعي، أنجز المجلس النيابي قانوناً جديداً للضمان الاجتماعي يستجيب، ولو نسبياً، لمطالب المعارضة وعشرات الآلاف من العاملين والمتقاعدين.
التجاوب البرلماني ــ ولو المحدود ــ مع روح الحراك الوطني الاجتماعي، وضع مجلس النواب الحالي في دائرة الاستهداف بالنسبة إلى الدوائر الأميركية. وخلال الأسبوع الماضي، تصدى المجلس لهجوم شنّه عليه نائب رئيس معهد «كارنجي» للسلام في واشنطن، الأردني النيوليبرالي مروان المعشر.
شكّك المعشر، في مقابلة مصطنعة مع طلاب وتعمّد نشرها في مواقع أردنية، في صدقية البرلمان الأردني الحالي وكفاءته. وهو ما يمثل دعماً صريحاً من كارنجي لوجهة نظر الإخوان المسلمين الغائبين عن التمثيل النيابي. وأعلن المعشر ــ الذي يحظى بعلاقات ممتازة في واشنطن ــ أنه سيعود إلى البلاد لتأسيس «تيار ليبرالي»، ما أثار التساؤلات عن وجود خطة تدعمها أوساط أميركية لملاقاة نتائج المفاوضات الفلسطينية ــ الإسرائيلية، ببناء قوة حزبية تدعم مشروع التوطين السياسي.
المسؤولون الأردنيون مطمئنون إلى أن المفاوضات التي ترعاها الخارجية الأميركية بين صائب عريقات وتسيبي ليفني لن ينتج منها شيء سوى ما ستشهده فترة المفاوضات نفسها من خفض التوتر، وتقليص المخاطر الآنية التي يواجهها الأردن. لكن لو حدث أن توصل الفلسطينيون والإسرائيليون، فعلاً، إلى اتفاق نهائي، فإن المملكة ستكون بصدد تحديات صعبة جداً؛ فأي اتفاق نهائي توقّع عليه إسرائيل سيشطب، بالضرورة، حق العودة، ما يطرح، فوراً، مشكلة الوضع السياسي للحاصلين على الجنسية الأردنية من اللاجئين والنازحين ( 43 في المئة من المواطنين)، ويضع الدولة الأردنية أمام خيارين صداميين مع أغلبية الأردنيين، هما التوطين السياسي وإعادة هيكلة الدولة لنفسها على أساس المحاصصة (فدرالية أردنية ــ فلسطينية داخل الأردن نفسه) أو الكونفدرالية مع ما يبقى من الضفة الغربية وسكانها. والخياران ليسا بالغي الخطورة فقط، بل انتحاريان. ولكن عمان ليست قلقة لأنها متيقنة من فشل المفاوضات. وهي احتاطت للمفاجآت باشتراطها أن تكون طرفاً مفاوضاً في ما يتصل بملف اللاجئين والحدود (حيث يخشى الأردنيون من اتفاق يسمح للإسرائيليين بالبقاء على الحدود الأردنية ــ الفلسطينية).
الاطمئنان الرسمي الأردني يحفزه أن مفاوضات واشنطن تجري، أساساً، في سياق إقليمي لم يستقر، ولا يسمح، تالياً، بتسوية، يرى سياسيّو عمان أنها ينبغي أن تُعقد، أولاً، في سوريا.
نجح النظام الأردني، على الرغم من الضغوط الأميركية والغربية والخليجية، في تلافي الانزلاق إلى تورّط جوهري في الحرب السورية، وظل مواظباً على علاقات ودية، ولو في الحد الأدنى، مع دمشق. وبينما يبدو الملك عبدالله الثاني، في لقاءاته الرمضانية، كأنه كسب الرهان في سوريا، فإنه ينظر، بارتياح كبير، إلى التطورات الإقليمية من قطر إلى مصر وتركيا. إن شبكة أعدائه الأكثر غطرسة قد سقطت: حمد بن جاسم ومحمد مرسي أصبحا من الماضي، بينما رجب أردوغان يعيش، وفقاً لمعطيات، أشهره الأخيرة في السلطة، مواجهاً المعارضة الداخلية والفشل في سوريا وتفاقم الحضور الكردي على حدوده.
العلاقة شبه العدائية بين الرياض وعمّان تحولت إلى تحالف محسوب من الطرفين؛ فلا السعودية تستجيب، إلا جزئياً، للاحتياجات الأردنية، ولا عمان تنخرط، إلا جزئياً، في السياسة السعودية نحو سوريا. تبدو هذه السياسة، بالنسبة إلى عمّان، متناقضة، إذ كيف يمكن دعم النظام الجديد في مصر ضد الإسلاميين، ودعم الأخيرين ضد الرئيس بشار الأسد؟
الاقتراح الأردني يدور حول مقاربة أخرى: المصالحة السعودية ــ السورية، واستعادة المبادرة في ترتيب النظام العربي. وإذا كان حجم الأردن لا يسمح بتحويل هذا الاقتراح إلى مبادرة سياسية، فإن لدى عمان ما تفعله لخلق مناخ جديد تصالحي ينأى بالمنطقة عن هول الصراع المذهبي: مؤتمر تعقده المملكة للوحدة الإسلامية، السنية ــ الشيعية، وتصدر عنه وثيقة مرجعية في هذا الصدد.
في أواسط العقد الماضي، كان الملك الأردني الذي لم تعركه تجربة واحدة قاسية كتجربة «الربيع المذهبي»، ينسى أنه هاشمي، ويطلق التصريحات حول «الهلال الشيعي»، لكنه، اليوم، بات يرى في الانقسام والاحتراب السني ــ الشيعي الخطر الأكبر على الإقليم وعلى الأردن ــ كدولة مدنية علمانية ــ وعلى المصالح الأردنية المرتبطة بالعراق كما بالسعودية، وأخيراً على الأمن الوطني.
وفي ما يتصل بهذه النقطة، يمكننا أن نوجز نظرية الأمن الأردنية، كالآتي: (1) إن التيار التكفيري الإرهابي بات يمثّل التهديد الأساس للبلدان العربية، (2) إن الصراعات المذهبية، وخصوصاً بين السنّة والشيعة، باتت المؤثر الرئيس في تنامي التيار التكفيري الإرهابي، وإن أهميتها في تجنيد الجهاديين على مستوى العالم العربي والإسلامي أصبحت تزيد بمعدل 10 إلى 1، على المؤثرات الأخرى، كالصراع مع الغرب أو إسرائيل، (3) إن الإخوان المسلمين يمثّلون، واقعياً، الغطاء السياسي للقوى التكفيرية الإرهابية، ويتشابكون معها ميدانياً، إضافة إلى أنهم يمثلون المحرّك الأوسع تأثيراً في نشر التعصب والحقد المذهبيين.
وهكذا، فإن السياسة الأردنية التي تتجه إلى محاولة تغيير المناخ الفكري العاطفي، داخلياً وعربياً، بما يتجاوز الانقسام المذهبي ويستعيد الوحدة الإسلامية على أساس الوسطية والاعتدال، لم تعد ترى في الإخوان قوة معتدلة، بل طائفية، ولا مجال للفصل بينها وبين التكفيريين.
في الاجتماع الموسع للمكتب التنفيذي لجماعة الإخوان المسلمين، الثلاثاء الماضي، صدرت أصوات تحذّر من التمادي في «التصريحات الاستفزازية للمجتمع الأردني»، وترى أنها من الأسباب التي هبطت بعديد المشاركين في فعاليات الإخوان السياسية «من الآلاف إلى المئات». ومع أن هذا الهبوط وصل إلى اعتصامات ووقفات لا يشارك فيها سوى العشرات، فقد ترافقت هاتين الأخيرتين مع رفع سقف الشعارات حتى وصلت إلى إعلان «الجمهورية» ــ لكن للضفتين ــ ما استفز السلطات ــ استوعبت تحدي الملك ولكن دون تحدي الملكية ذاتها ــ واستفز الحركة الوطنية التي ترفض الكونفدرالية أو الفدرالية مع الضفة الغربية المحتلة، في أي صيغة كانت.
لم يشكل عقلاء الإخوان ــ الذين توقعوا أن تقوم الحكومة الأردنية بـ«تطبيق القانون» على الجماعة المرخصة كجمعية خيرية، وتعتبر ممارستها للعمل السياسي تجاوزاً واقعياً لكنه غير قانوني ــ سوى أقلية تبدد تأثيرها حين جزم المراقب العام للجماعة، وأكثر أعضائها تشدداً، همام سعيد، بأن السلطات لن «تطبّق القانون على الجماعة».
من أين حصل سعيد ــ الذي صرّح الأسبوع الماضي علناً بأن إصلاح النظام ليس سوى «شعار مرحلي» ــ على كل تلك الثقة بحصانة «الجماعة» إزاء القدرة الحكومية على لجمها وربما حلها؟ يرجّح المراقبون حصول قيادات الإخوان الأردنيين على تطمينات أميركية بأن إطاحة مركزهم التنظيمي في مصر لن تؤدي إلى اتخاذ إجراءات قانونية ضدهم في الأردن.
ومنذ سقوط حكم الإخوان في القاهرة في 3 تموز الماضي، احتدم النقاش في صفوف نخبة الحكم والسياسة في الأردن بشأن ما يجب فعله مع الإخوان الأردنيين؛ تيار ليبرالي مقرّب للأميركيين رأى أن لحظة ضعف الجماعة هي مناسبة ممتازة لاستيعابها، وتيار وطني تقليدي رأى العكس. وأصبح واضحاً، منذ زيارة الملك عبدالله الثاني، الودية، لقاهرة ما بعد الإخوان، أن الريح تميل لمصلحة الرأي القائل باغتنام الفرصة لتسديد ضربة تضع حداً للحراك الإخواني، خصوصاً بعدما تحول من ظاهرة جماهيرية إلى ظاهرة إعلامية.



تفاؤل اقتصادي!

عكس أهم المحللين الاقتصاديين الأردنيين فهد الفانك أجواء التفاؤل الاقتصادي في أوساط النظام الأردني، في مقال يعارض كل التوقعات السلبية السائدة؛ فلاحظ أن الاقتصاد الأردني حقق في عامي الحراك الصعبين نسبة نموّ سنوية معقولة بالأسعار الثابتة هي 3 في المئة. ولاحظ إمكانية التحسن في مجالات المنح الخارجية (5 في المئة من الناتج الاجمالي المحلي) وحوالات المغتربين المتزايدة بفضل الاستقرار السياسي (10 في المئة) والاستثمارات الأجنبية (3 في المئة) والسياحة ــ بما فيها العلاجية ــ (10 في المئة) وحصيلة صادرات الفوسفات والبوتاس والملبوسات والمنتجات الزراعية (23 في المئة).
ومن الواضح أن التحسن الممكن الذي يقترحه الفانك، أقله بالنسبة إلى المجالات الأربعة الأولى، يعتمد، بصورة أساسية، على تحسن المناخ السياسي والاستقرار.