القاهرة | في رابعة العدوية، النهضة أو التحرير، متظاهرون من مختلف المشارب والمذاهب، يهتفون لقادة يتصارعون على السلطة، لكن الغريب أن ما يجمعهم الهدف نفسه: حب مصر. 4 ميادين امتلأت بملايين المواطنين يوم الجمعة الماضي، كلٌّ يدافع عن وطنه الذي يأمل. انقسامات حادة بين الطرفين تظهر بوضوح في الهتافات التي ملأت سماء العاصمة المصرية في ذلك اليوم. شركاء الثورة في الأمس القريب، صاروا متضادين الآن. وصل الأمر الى حد تخوين بعضهم بعضاً، وهو ما قتل فيهم روح شراكة الميدان التي استمرت قرابة 18 يوماً في كانون الثاني 2011. «ناس كتير مش إخوان موجودون في ميدان النهضة وإشارة رابعة العدوية، ولكنهم موجودون حفاظاً على الشرعية ومدنية الدولة التي يسعى العسكر لاختطافها»، كما يقولون. والمشهد نفسه في التحرير والاتحادية: «ناس كتير مش فلول بس متظاهرين حفاظاً على الدولة المدنية وحمايتها من الإرهاب الذي يرونه متمثلاً في استمرار جماعة الإخوان المسلمين في الحكم»؛ هذه هي مصر يوم الجمعة.
الأجواء الرمضانية عمّت كافة الساحات، وصام مسيحيّو مصر ليفطروا مع شركائهم من المسلمين في الميادين المفوضة للجيش على آذان المغرب وأجراس الكنيسة التي دقّت في أرجاء العاصمة بنفس توقيت مدفع الافطار.
التنظيم الإخواني يحتاج إلى البقاء في رابعة؛ فالتظاهرات تعيد إليه أنصاراً سبق أن فقدهم في أوساط المتدينين من المتعاطفين مع الصمود أمام الدولة، كما تعيد بناء الثقة بالقيادة لتحظى بصورة القيادة الباسلة التي تتحمل السجون بدلاً من صورة الفشلة الأغبياء. وهناك يجلس كل مسؤول إخواني مع أفراد أسرته الإخوانية، ويحدثهم عن الثبات لنصرة الحق والأفراد. الجميع يحمل شعار الموت أو النصر. القيادات المدرجة أسماؤهم في قوائم المطلوبين، أو المتوقع الانقضاض عليهم من قبل أمن الدولة، موجودون في قاعة خاصة محكمة الجدران ومغلقة كي لا يصل إليهم أحد بسهولة. رائحة دماء القتلى تغزو محيط رابعة، وأرواحهم تملأ المكان، تلعن من قتلها مع كل شروق شمس.
3 سيدات هن نموذج للمتظاهرات للمرة الأولى؛ إحداهن دفعتها الشرعية إلى الاشتراك في المسيرات المؤيدة للشرعية وتظاهرات ميداني النهضة وإشارة رابعة العدوية، وأخرى دفعها تفويض الجيش إلى الخروج في تظاهرات ميدان التحرير والاتحادية.
تمشي خطوة تلو الخطوة، حاملة صورة الرئيس المعزول محمد مرسي، تارة تهتف وتارة لا، فشدّة الحر هي التي تمنعها مرغمة من الهتاف بسقوط حكم العسكر واتهامات السيسي بالخيانة والانقلاب على الرئيس الشرعي، من وجهة نظرها، والمعزول الآن محمد مرسي. تلك هي «أفكار»، سيدة خمسينية مرتدية عباءة سوداء اللون وطرحة طويلة تحمل نفس السواد، خرجت للمرة الأولى للتظاهر منذ أن سمعت عن مرسي في 25 يناير 2011، فهي لم تكن تراه إلا في «التلفزيونات وبس»، ووجهة نظرها كوّنتها عبر هذه القنوات، التي تعرض كل تظاهرة من وجهة نظرها.
«أفكار» جاءت لتصلي من بولاق الدكرور في مسجد مصطفى محمود في حي المهندسين في الأسبوع قبل الأخير من شهر رمضان. وخلال وجودها داخل المسجد، أقنعتها صديقاتها من المنطقة نفسها بالتظاهر من أجل نصرة الاسلام الذي يضيّعه السيسي بعزل مرسي، أول رئيس ملتح، أول رئيس مصري يصلي، أول رئيس مصري منتخب، كما تردد «أفكار» بعد جلستها الحميمة في المسجد مع صديقاتها. الحديث مع أفكار، ربة المنزل، يبعث بشعور كأنها اعتادت النزول في التظاهرات. حديثها يؤكد أن لها هدفاً وكانت تنتظر من يدفعها إلى التظاهر، وقد حدث ذلك في جمعة الفرقان لنصر الرئيس المعزول، تقول: «خرجت اليوم عشان ثورتنا، عشان الشرعية اللي بيضيعوها. ما هو لو مرسي اتعمل معاه كده هيتعمل مع كل رئيس كده، ويبقى صوتنا الانتخابي ونزولنا ملوش أي لزمة بعد كده».
تتحدث كأنها على دراية جيدة بواقع مصر الانتخابي ومصير فكرة الصندوق الانتخابي، التي اعتبرها الملايين الطريق الصحيح بل الوحيد للتغيير السلمي بعد ثورة 25 يناير. أفكار أقنعت أختها بعد انتهاء الصلاة بأن تخرج معها الى التظاهرات، كي ترى بأم عينها، كما تقول، بدلاً من أن تكتفي بالسماع، غير أنها تاهت منها وسط زحام مسيرة مصطفى محمود المتوجهة إلى اعتصام ميدان «النهضة»، الذي شهد حضور الآلاف من أنصار مرسي. تمشي مسرعة، متنهدة، يتصبّب وجهها عرقاً من الحر، حاملة صورة مرسي بيدها، «لتنصره وتنصر الاسلام»، مقتنعةً تماماً بأن عودته تعني إنقاذ الاسلام داخل مصر. وظلت «تنصر إسلامها» في دقائق معدودة، الى أن وجدت محطة مترو أنفاق الدقي لتعود الى بيتها بعدما أصابتها حرارة الشمس بعطش شديد في شهر الصيام.
على مسافة ليست ببعيدة، في ميدان التحرير، في جمعة تفويض الجيش للقضاء على الإرهابيين، تقف نيفين أشرف وتسير بقوة الدفع هي وزوجها تفويضاً للسيسي، هاتفين «سيسي يا سيسي»، «الجيش والشعب إيد واحدة»، الفرحة تكاد تتطاير من عينيها، «فهي من مناصري الجيش قلباً وقالباً»، ترفض أي وصف سيّئ ينال من خير أجناد الأرض.
نيفين ابنة الـ26 عاماً تقول لـ«الأخبار» إنها تظاهرت للمرة الأولى في ميدان التحرير «بعدما ضيّع مرسي البلاد طيلة فترة حكمه»؛ هي ممن يطالبون الجيش بفض جميع الاعتصامات، سواء في رابعة أو التحرير في النهضة أو الاتحادية، لتسهيل حركة المرور على المواطنين الذين فاض بهم الكيل من قطع أنصار مرسي للطرق.
«الإخوان هم الجماعات الإرهابية التي طلب الجيش التفويض للقضاء عليها، وأنا هنا اليوم لأفوّضه»، تؤكد نيفين، الذي رفض والدها بشدة نزولها إلى أي تظاهرة مهما كانت التداعيات والاسباب.
ساعتان ونصف الساعة شعرت فيها نيفين بإحساس مختلف، بسعادة ونشوة تغمرانها؛ فالنزول له وقع وإحساس مختلفان عمّا نتابعه في القنوات التلفزيونية، تقول، وتضيف «كنت فرحانة جداً بالطائرات التي كانت تحلق فوق رؤوسنا، وأجواء الاحتفال وصوت البوق فرحاً بنصرتنا على الإرهاب لم يكن لها مثيل».