دمشق | أشهر الأزمة طالت وأحلام السوريين بانتهائها تبخرت. أحلام جديدة بالسفر والهجرة نحو أيّ وجهة كانت ظهرت، سواء كانوا لاجئين أو في أحسن الأحوال مقيمين على نفقتهم الخاصة. وفي حال قرّر السوريون اختيار الحلّ الثاني، فابن دمشق بات مجبراً على اتخاذ حلين: إما المخاطرة والذهاب إلى مطار دمشق واستخدام إحدى رحلاته المحدودة أو اختيار الطريق الأكثر أماناً والأكثر تنوعاً، من خلال التوجه إلى مطار بيروت.
سائق أحد «التكسيات» العاملة على طريق بيروت، يبلغ «الأخبار» بأنّ رحلاتهم يومية وغالبيتها تتجه نحو المطار مباشرة، بعدما تراجع عدد الرحلات المنطلقة من مطار دمشق. ولا ينكر بأنّ التعرفة ارتفعت كثيراً، ففي أشهر الأزمة الأولى، كانت تكلفة الراكب الواحد لا تتجاوز الـ 600 ليرة وتكلفة السيارة كـ«طلب» بحدود الـ 3500، «تأخذ المسافر من باب بيته وتوصله إلى محطة شارل الحلو في بيروت». لكن الحال تغيّرت مع استمرار الأزمة، ليصبح هذا السعر مخصصاً للراكب الواحد ضمن سيارة جماعية، «وفي أحسن الأحوال يمكن دفع 2500 ليرة وأخذ أحد الباصات المتجهة إلى مطار بيروت، وفي حال قرر الحصول على شيء من الرفاهية وأخذ التاكسي بمفرده، فعليه تسديد 12 ألف ليرة مقابل هذا الخيار»، يضيف السائق.
ويعلّل السائقون الزيادة بمبررات حفظها السوريون عن ظهر قلب، مثل ارتفاع الأسعار داخل سوريا وانخفاض قيمة الليرة وقلة البنزين، وكثرة الحواجز التي جعلت الرحلة تطول وتستغرق ساعات طويلة.
ولا ينفي صاحب أحد المكاتب السياحية، وسط العاصمة دمشق، القفزات غير المنطقية في الأسعار، موضحاً أن الغلاء شمل كل شيء، بما فيها أجرة السيارة المتوجهة نحو مطار دمشق، فهي اليوم بحدود الـ 4500 ليرة سورية بشرط الذهاب صباحاً. وحينما نسأله عن طبيعة الطريق، يقول «كل شخص ونصيبو»، مشدداً على أن أخذ طريق المطار ليلاً خطر ولا يفضّله أحد. ويختم بأن الناس يرغبون في السفر عن طريق دمشق حتى لو كانت الأسعار مرتفعة فهي أقل تكلفة من السفر إلى بيروت وتكبد رسوم المغادرة، ولا سيما بعدما تحدثت مصادر حكومية مؤخراً عن رفعها من 550 ليرة إلى ألف، في إطار سياسة زيادة بعض الضرائب والرسوم.

«السورية» سيدة الساحة

في مطار دمشق، يمكن القول بأنّ «السورية للطيران» هي سيدة المشهد، فطائراتها الوحيدة هي التي تنطلق وتهبط بعدما قاطع مطار دمشق الشركات العربية والأجنبية لأسباب سياسية وأمنية. ومع هذا ليست «السورية» سيدة المشهد في كل المطارات. إذ يذكر مصدر في المؤسسة لـ«الأخبار» أنّ رحلاتهم تراجعت وتقلصت وجهاتهم لتصبح اليوم 15 وجهة من أصل 42 في مختلف دول العالم. ويشير إلى أنّ هذه الوجهات هي: «موسكو، دول الخليج، يريفان، بيروت، عمان، طهران، مصر، الجزائر».وينفي امتلاك المؤسسة حالياً أرقاماً دقيقة عن عدد الرحلات أو الركاب، بعدما تعرضت لإرباكات تقنية من جراء العقوبات الأميركية الجديدة، فوزارة الخزانة الأميركية أضافت (في 16 أيار 2013) مؤسسة الطيران السورية إلى قائمة الشركات والأشخاص السوريين الخاضعين للعقوبات. كذلك حجبت خدمة شبكة «سيتا»، عن «مؤسسة الطيران العربية السورية»، المسؤولة عن برامج الحجز وإصدار التذاكر الإلكترونية. ويشير المصدر إلى أنّ المؤسسة ستتخلص من هذه الأزمة قريباً، وستطبق نظاماً جديداً خاصاً بها، يعيد موضوع الحجوزات إلى مكانها الطبيعي.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه الشركة عن زيادة محدودة على أسعارها لا تتجاوز الـ 30%، يؤكد أصحاب المكاتب السياحية أنّ الأسعار في ارتفاع يومي، وحتى الوجهات القريبة ستكلف المسافر مبلغاً يفوق الخمسين ألف ليرة كالذهاب إلى عمان أو مصر، وهي وجهات كانت في حدود لا تتجاوز الـ 15 ألف ليرة قبل الأزمة.
ومهما ارتفعت تكلفة السفر الجوية، فهي في الوقت الحالي الخيار الأكثر أماناً حتى بالنسبة إلى من يرغب في السفر إلى الأردن، فالطريق لم يعد مقبولاً بالنسبة الى الكثيرين وتتحرك اليوم باصات تقل الركاب إلى هناك مقابل 14 ألف ليرة سورية، كما يوجد بعض السيارات الخاصة التي تسافر إلى الأردن _ وهي في حال توافرها _ كما يقول صاحب أحد المكاتب، «فأجرتها مرتفعة جداً وتكلّف أكثر من عشرين ألف ليرة». ويوضح بأن الطريق الذي تسلكه السيارات اليوم يمر عبر السويداء، ما جعل المسافة تزداد.

عقوبات على المواطن

وبغض النظر عن الوضع الاقتصادي الذي تعيشه سوريا وارتفاع الدولار، فأسباب مشكلة السفر هذه ظهرت مع بدايات الأزمة ومع مقاطعة شركات الطيران العربية والأجنبية لسوريا في إطار سلسلة العقوبات الاقتصادية التي فرضت، بهدف الضغط على الدولة، والتي انعكست في مجملها على معيشة المواطن. ويوضح أستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق أنّ القضايا الاقتصادية على تشعبها تصبّ في النهاية ضمن إطار مستوى معيشة الأفراد ورفاهيتهم، وبالتالي العقوبات الاقتصادية لا بد لها بالنهاية من التأثير على مستوى معيشة الأفراد لأنها بداية تؤدي إلى ندرة الموارد، وبالتالي ارتفاع الأسعار والتأثير سلباً على الدخل الحقيقي للمواطنين، وثانياً تؤدي إلى ارتفاع تكاليف الخدمات باعتبار أنّ البدائل محدودة، ومع وجود العقوبات يضطر الأفراد والحكومات إلى اتباع الأساليب غير المجدية للحصول على السلع والخدمات بتكاليف عالية.
ويتابع الدكتور الجامعي، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، في حديثه مع «الأخبار»، إنّ العقوبات التي خضعت لها سوريا في الفترة الماضية، رغم أن ظاهرها استهداف الحكومة، لكنها في الجوهر انعكست سلباً على المواطن، فلم يشهد التاريخ سقوط حكومات نتيجة العقوبات، ولكن شهد التاريخ إفقاراً للشعوب نتيجة العقوبات (حالة كوبا). وتبيّن بلا أدنى شك أن العقوبات بأنواعها كلها ليس هدفها الضغط السياسي، فأهدافها بعيدة المدى، وهي تسعى الى التدمير المبرمج لكل أسباب الحياة.‏‏
ويتابع: من المعروف أنّ العقوبات هي المعادل الاقتصادي لما يسمى في الحروب القصف الشامل، بل إنّ نتائجها تعادل الحروب وقد تزيد عنها، كما هي الحال في العراق، حيث تسببت بوفاة أكثر من مليون ونصف مليون طفل عراقي. وعلى الرغم من أن الهدف المفترض للعقوبات هو الضغط السياسي، إلا أن العقوبات التي فرضت تتجاوز أهدافها إلى أبعد مدى كونها تؤدي إلى تدمير مبرمج لكل أسباب الحياة، بل إن نتائجها قد تكون أسوأ من الأعمال العسكرية المباشرة، في حال نجاحها في ‏التضييق على المواطنين لزيادة الاحتقان الشعبي ضد الحكومة، وبالتالي زيادة حجم المعارضة الضاغطة على الحكومات.
ويدعم هذا الرأي الخبير الاقتصادي، رياض تقي الدين، الذي أكد أنّ هناك إشكالية تتعلق بالتوفيق بين تفعيل العقوبات الاقتصادية الدولية واحترام حقوق الإنسان، مبيّناً أن موضوع العقوبات على سوريا هو أمر مستمر منذ ثمانينيات القرن الماضي، واليوم تكرر الموضوع بصورة قاتمة واشتركت فيه جامعة الدول العربية.
ويبيّن، بدوره، رغم أن ظاهر هذه العقوبات موجّه ضد الحكومة السورية، إلا أنه فعلياً كان مخططاً لإلحاق الضرر بالشعب السوري بهدف دفع المواطنين إلى تحمل أعباء مالية لا طاقة لهم بها، وبالتالي خلق قاعدة شعبية مناوئة للدولة.



العقوبات تمهيداً للتدخّل

يقدّم الخبير الاقتصادي، رياض تقي الدين، خلفية لهذه العقوبات، موضحاً أن تاريخها قديم ويعود إلى عصور ما قبل الميلاد، وقد استخدمته الإمبراطوريات العظمى ضد بعضها البعض وضد الدويلات والكيانات والمستعمرات الصغيرة الخاضعة لها من أجل إخضاعها بشكل دائم وكبح جماح أي محاولات للتمرد أو أي نزعة للاستقلال أو للانفصال عنها.
وتفيد دراسة مشتركة، شارك في إعدادها غاري كلايد هوفباور وجيفري شوت، وكمبرلي آن إليوت، بأنه منذ عام 1914 تمّ تطبيق 116 حالة عقوبات (أي على 65% من دول العالم) نجح منها 34 حالة فقط، وعند التدقيق في واقعية هذه الأرقام، يظهر أن عدد الحالات الناجحة أقل من ذلك بكثير.ويرى خبير العقوبات، روبرت ريب، أنّ خمساً فقط من حالات النجاح الـ 34 التي ذكرت في التقارير تمت بالطرق القانونية الدولية، فيما تم تنفيذ باقي الحالات من خلال التهديد، أو عبر استخدام القوة العسكرية، حيث غالباً ما تكون العقوبات الاقتصادية تمهيداً للتدخل العسكري.
وقد سجل متابعو هذا الموضوع حوالى 65 حالة حصار فرضتها أميركا ما بين عامي 1940 ــ 1992، وحوالى 25 حالة حصار أخرى تمت بالتعاون مع دول أخرى. وقد فرضت أميركا 115 حالة حصار اقتصادي انفرادي، منها 61 حالة خلال فترة الرئيس بيل كلينتون.