بصفته «شاعراً كبيراً» حضرت له أمسية منذ خمسة أشهر في مخيم اليرموك في سوريا، وقبلها بعدة أشهر انتظرت في طابورٍ طويل لأخذ توقيعه على مجموعته الشعرية في مكان آخر. لم يكن الأستاذ (س) يعلم أنّه سوف يقف مرةً أخرى ليكرر تاريخ والدته مع نافذة الأونروا الزرقاء.
لم يكن يعلم أنه سيقف موقفها ذاته عندما كانت تضطر إلى الاستفاقة باكراً والذهاب الى هناك للانتظار ساعات طويلة من أجل أن تتسلم تلك المساعدة المقدمة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطنيين، لتسد بها تلك الأفواه الصغيرة الجائعة في منزلها، وهو أحدها. لم يكن (س) يعلم أنّ تلك النافذة سوف تكون ملجأه الأخير، بعد أن أصبح شاعراً وكاتباً وصحافياً مرموقاً، تتسابق إليه الصحف السورية. والآن أراه «كلاجئٍ كبير»، يقف على تلك النافذة الزرقاء التي كرهتها أمه وكرهها هو دائماً، ينتظر بصبر توقيع مدير مكتب وكالة الأونروا في بيروت، حتى يستطيع تسلّم مبلغ ضئيل من المال، يضيفه الى مبلغ آخر من أجل أن يصبح كافياً لسداد أجرة منزله في مخيم صبرا وشاتيلا في لبنان.
هي معاناة جميع المثقفين والمبدعين الفلسطينيين الذين خرجوا من سوريا هرباً من تجيير أقلامهم لمصلحة إعلام كاذب، يساهم في قتل الأبرياء هناك، أو تفادياً لاعتقالٍ قد يودي بحياتهم وحياة أولادهم في زمن لم يعد مفهوماً لمَ يدخل الإنسان المعتقل ولم يخرج منه أو لا يخرج أبداً. لم تكن هناك خيارات أمامهم عندما جاؤوا الى بيروت، عاصمة الأقلام الحرة والمنابر الإعلامية التي يحلم أي كاتب عربي بالوصول إليها. ولكنها بيروت، بيروت التي تأكل حتّى أبناءها، بيروت التي أصبحت منابرها تابعة لطائفةٍ هنا، وتيار سياسي مطيّف هناك، وهي مكتفية بما لديها من مثقفين ومبدعين لبنانيين وعرب.
يقول الصحافي السوري النازح محمود (وهو اسم مستعار)، الذي كنت أناقش معه الموضوع أثناء سيرنا الى مكتب وكالة الأونروا في منطقة بئر حسن، «عندما أتيت الى بيروت، وعلى الرغم من أنّ حضوري كان هروباً من الاعتقال لأنني مع الثورة في سوريا، كنت سعيداً. فهذه بيروت... بيروت التي نعشقها، بيروت بدر شاكر السياب ومحمود درويش ومحمد الماغوط والرحابنة وفيروز. ولكنّ الكتّاب كثر في لبنان، والمنابر الموجودة غير كافية لتأمين لقمة العيش لهذا الكم الهائل منهم». ويتابع حديثه بمرارة وسخرية «منذ مجيئي لم أنشر سوى مقالتين، وأنا عندي أسرة عليّ إطعامها. طرقت باب الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، لكنه لا يقل سوءاً عن الاتحاد الذي لدينا في سوريا (يلا مطعمين حالهم) ووضعهم المادي سيّئ جداً وهم لا يستطيعون تقديم أي مساعدة مالية. يا رجل، حتى الآن لا توجد مؤسسه واحدة فلسطينية تحمي المثقف الفلسطيني من العوز».
أثناء حديثنا ذاك، كنا نمر أمام بسطة كتب، نتفادى النظر إليها، فلا شيء في الجيوب يصح صرفه على هذا «الترف» في المنفى، ونكمل طريقنا نحو منطقة الرحاب، الى مدرسة الجليل التابعة لوكالة غوث اللاجئين، ندخل المدرسة كما يدخل اللص الذي يحاول التسلل خفية عن عيون الناظرين، يرانا أحد النازحين من سوريا، ويبادرنا «كيفكم أساتذة؟»، يسأل باستخفاف، كأنه يوجه سخرية جملته كالإهانة الى صدورنا. نرتبك ونحاول التملص من الإجابة، «أهلين حبيب»، هكذا نجيب. وعلى عجل نكمل طريقنا ونحن نتلفّت حولنا من دون أن نظهر ارتباكنا وتوترنا الداخلي. نأخذ أرقاماً ونقف الى جانب البوابة الزرقاء ننتظر مثل غيرنا من النازحين توقيع موظفة الأونروا.
يسأل جميع المثقفين والمبدعين الفلسطينيين المهجرين من سوريا الى لبنان: أين دور وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله؟ أين هي من هذا الذل الذي يعيشونه؟ يجيبون أنفسهم «لنقل إن وزارة الثقافة الفلسطينية مسؤولة فقط عن مبدعيها الموجودين تحت سقف السلطة الفلسطينية وضمن أراضيها، طيب أين هي مسؤولية دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية»؟ تأتي الإجابة من طرابلس: تخرج جنازة خجولة لشخص غريب عن المكان، للناقد الأدبي الفلسطيني الكبير يوسف سامي اليوسف، الذي كتب عن النكبة الأولى، ولم تسعفه الأيام ليكتب عن نكبته الجديدة من المنفى الى المنفى، ولا مقالات جديدة تعودنا أن نقرأها بقلمه عن تجاهل، وفي أحيان كثيرة محاربة، المؤسسة الثقافية الفلسطينية الرسمية والفصائلية للمثقف الفلسطيني.
فيا عزيزي المثقف الفلسطيني، لا تشعر بالإهانة من شباك الوكالة والوقوف في الطابور أمامها، فكما قال أحد الظرفاء: أونروا باليد ولا عشرة فصائل والسلطة فوقهم، على الشجرة.