تونس | في الوقت الذي اتفقت فيه كافة القوى الديموقراطية واليسارية، من الاتحاد من أجل تونس، إلى الجبهة الشعبية والتيارات العروبية، إلى حكومة إنقاذ وطني، خرج إسلاميو النهضة إلى الشارع للدفاع عن الـ«شرعية». والأكيد أن البلاد لن تهدأ أبداً بعد الآن، وذلك لأن «حمم بركان غضب» الشعب بدأت تنفث حممها إلى الشارع، وخاصة بعد ربط وزير الداخلية لطفي بن جدو قتلة البراهمي بقتلة شكري بلعيد الذي أدت إدارة أزمة ما بعد اغتياله إلى الحفاظ على الترويكا نفسها، لكن بوجوه جديدة دفعت علي العريض إلى رئاسة الحكومة عوض حمادي الجبالي.

حال أثبت إلى حد ما فشل الأداء السياسي للمعارضة في تغيير الواقع السياسي التونسي، وخاصة مع توجه بعض القوى السياسية للتفاوض مع النهضة على بعض الحقائب الوزارية، فيما خيّر الآخرون الذهاب نحو مقاطعة كل الحوارات الوطنية والذهاب نحو إسقاط الحكومة والبحث عن حكومة إنقاذ وطني، وهو ما نجحت فيه حركة النهضة التي كلما ألمّت ملمّة بالبلاد عزفت على وتر وضع البلاد المتدهور الذي يجب التوافق حوله والتي لا تراه الحركة إلا من خلال منظورها للتوافق ومنطق الأغلبية على الأقلية، ما لا يخدم مسار الانتقال الديموقراطي أكثر من مسار تثبيت الحكم الثيوقراطي.
ولعل حال اشتعال الشارع التي بدأت منذ الليلة قبل الماضية، عند خروج تظاهرات عارمة في كافة مناطق الجمهورية استهدفت في مجملها مراكز السلطة والحزب الحاكم، كان أبرزها في مسقط رأس البراهمي في سيدي بوزيد التي أعلن فيها العصيان المدني وخلعها لمحافظ المنطقة وتأسيس لجنة إنقاذ تدير الشأن العام بالجهة. حالة تمرد هي الأولى في البلاد، وبدأت تجد طريقها إلى باقي المناطق، وخاصة في الجنوب وفي المثلث الخطير «سيدي بوزيد (مهد ثورة 14 جانفي) القصرين وقفصة»، فيما شهدت صفاقس، ثانية المدن التونسية أمس، محاولة لاقتحام مبنى المحافظة، انتهى باعتصام مفتوح أمامها يطالب بإسقاط الحكومة وبمحاكمة راشد الغنوشي باعتباره مسؤولاً عن الاغتيالات السياسية. ومثل هذه المشاهد تكررت متفاوتة في مناطق أخرى بالبلاد، فيما قررت جملة من الشباب الديموقراطي والثوري الدخول في اعتصام مفتوح أمام المجلس الوطني التأسيسي للمطالبة بإسقاطه.
ولعل ما يحدث في الشارع وما يقوم به الشباب الثوري التونسي لم يجد طريقه سريعاً نحو القيادات والرموز التي يبدو أنها ما زالت في لحظات حساب المراحل القادمة في التعامل مع الحكومة، في وقت بدأت فيه تطلعات القواعد تجد طريقها في بيانات الساسة.
ففي الوقت الذي خرج فيه الشباب إلى الشوارع وبدأوا في تنفيذ اعتصام مفتوح لإسقاط المجلس التأسيسي، كان الساسة من مختلف التيارات السياسية يتفاوضون على موقف مشترك لم يجد طريقه إلى النور إلا أمس صباحاً بعد ليلة كاملة من المفاوضات، حيث اتفق على اختيار حكومة إنقاذ وطني تُعدّ لانتخابات قادمة، كموقف مبدئي في وقت رأى فيه الاتحاد من أجل تونس الذي عقدت هيئة أمنائه العامين جلسة طارئة أول من أمس، حل المجلس التأسيسي وحل الحكومة القائمة وتعويضها بحكومة انقاذ وطني تقودها شخصية وطنية مستقلة بالتوافق تعمل على تحقيق شروط الانتقال الديموقراطي ولا يترشح أعضاؤها للانتخابات القادمة وتباشر إلغاء التعيينات المنجزة على أساس الولاء الحزبي وحل الميليشيات وكل الهياكل الضالعة في العنف وتنفيذ إجراءات تحييد الإدارة والمساجد.
مقابل ذلك، خرج أنصار حركة النهضة الإسلامية التي تقود الحكومة بالمئات عقب صلاة الجمعة، حيث رددوا أمام وزارة الداخلية شعارات «الشعب يريد النهضة من جديد» و«لا للانقلاب على الديموقراطية».
ورغم نفي حركة النهضة للاتهامات التي وجهت إليها بالوقوف أمام الاغتيال السياسي، إلا أن نتائج التحقيقات التي أعلنت أمس في تونس كانت مخيبة للإسلاميين، إذ ثبت ضلوع «الإسلام السياسي» في جريمة القتل، وخاصة أن المتورطين ينشطون ضمن تيار «أنصار الشريعة» السلفي الجهادي، الذي له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بعناصر من حركة النهضة الإسلامية الحاكمة، وخاصة أن الحركة كانت مظلة لكل التيارات الإسلامية في أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل الثمانينيات ضمن ما عرف بالاتجاه الإسلامي، التي تمخضت عنها عديد من الجماعات، منها الجماعة التونسية المقاتلة التي كانت تضم بعض أعضاء الحركة ووجدت طريقها سريعاً إلى أفغانستان، والتي كان يقودها أبو عياض أمير ما يعرف اليوم في تونس بـ«أنصار الشريعة» (الاسم نفسه يطلق على تنظيمات تابعة للقاعدة في اليمن وليبيا ومالي) والتي بدأت تنشط في تونس بعد صعود حركة النهضة إلى سدة الحكم. في الوقت نفسه تتجه أصابع الاتهام إلى النهضة، وخاصة بعد حالة الاحتقان التي بدأت تعيشها الحركة بعد تصريحات نارية من رئيس كتلة الحركة في المجلس التأسيسي حول «سفك دم كل من يشكك في شرعية الحركة».