الطريق إلى دمشق اليوم، ليس أقل خطورة ومعاناة، من الطريق الذي يسلكه المهاجرون إلى أوروبا. وفي بعض الأحيان، تتجاوز نفقات «قطعه» ما ينفقه طالبو اللجوء في رحلتهم إلى ألمانيا أو السويد وغيرها، كما هو حال سكان مدينة دير الزور المحاصرين.هكذا يصف شاب، وصل اخيراً من ريف دير الزور إلى العاصمة، معاناة المقيمين في المحافظات الشرقية، والمجبرين نتيجة سوء الأوضاع الأمنية والاقتصادية والصحية إلى «المغامرة» والتوجه إلى العاصمة وضواحيها الآمنة، إما للإقامة فيها بصفة مؤقتة، أو طلباً للعلاج في مستشفياتها، وعيادات أطبائها الاختصاصيين.
إذ لا تكاد تخلو اليوم عيادة طبيب واحد مشهور في دمشق، من مرضى، قصدوه للعلاج من قرى ومدن المنطقة الشرقية، فضلاً عن الذين يقصدون المستشفيات الحكومية، لكن حتى الآن ليست هناك أي بيانات إحصائية رسمية يمكنها أن ترسم ملامح للظاهرة وخطورتها. وهو أمر يعيده مدير صحة دير الزور السابق، الدكتور فاخر الحميد، إلى صعوبة رصد المتغيرات الصحية في كثير من مناطق المحافظات الشرقية، ولا سيما مدينة دير الزور المحاصرة وريفها الخاضع لسيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي، وبالتالي استحالة الوصول إلى مؤشرات رقمية، لكنه يؤكد في حديثه لـ«الأخبار» أن «ثقل المعاناة، التي لا يمكن وصفها، يجعلنا نقول: صدّق كل ما تسمع».
عدد الأطباء في أحياء دير الزور لم يعد يتعدى 17 طبيباً

لكل منطقة من المحافظات الشرقية معاناتها، فالأحياء المحاصرة في مدينة دير الزور لها حكايتها الخاصة مع المعاناة، التي تبدأ بحسب نقيب أطباء المحافظة الدكتور صفوان خرابة «بقلة الطعام، تلوث المياه، انعدام الكهرباء، ندرة المحروقات، إضافة إلى تراجع مستوى النظافة، وما يسببه ذلك من انتشار للأمراض المتنقلة كاللاشمانيا وأمراض الكبد الفيروسي». كل ذلك يترافق نتيجة الحصار مع «ضعف في توريد الأدوية النوعية الخاصة بالأمراض المزمنة كالسكري والقلب وغيرها، هذا إذا لم تنعدم، وخوفنا اليوم هو أن ينتشر مرض انفلونزا الخنازير، برغم عدم تسجيل أي حالة حتى هذه اللحظة». وهذا أيضاً ما يقلق نقيب أطباء محافظة الرقة الدكتور جمال عيسى، الذي يصف الوضع في حال ظهور مرض انفلونزا الخنازير «بالمصيبة، فالعمل توقف تماماً في جميع المستشفيات الحكومية، وهناك صعوبة كبيرة في إيصال اللقاحات والأدوية الوطنية إلى المحافظة، التي تنتشر فيها أدوية تركية غير موثقة». وبحسب ما يؤكده الدكتور عيسى لـ«الأخبار» فإن المحافظة الخاضعة لسيطرة «داعش» تعاني «انتشارا للأمراض السرطانية نتيجة التلوث الناجم عن استخدام الحرقات في تكرير النفط، وإحراق مشتقاتها للتدفئة في المنازل ولتشغيل الآليات، كما أن هناك زيادة ملحوظة في الأمراض الصدرية والوبائية كاللاشمانيا وغيرها».
الوجه الآخر للمعاناة، التي تدفع أبناء المنطقة الشرقية للنزوح إلى دمشق طلباً للعلاج، يتمثل في واقع الخدمات الصحية، وحجم الكادر الطبي الذي لا يزال على رأس عمله في تلك المنطقة. فبحسب نقيب أطباء الرقة فإن «سيطرة تنظيم داعش على المحافظة دفع بنحو 60% من أطباء المحافظة إلى الهجرة لخارج القطر مباشرة، ولا يتعدى اليوم عدد أطباء المحافظة العاملين في محافظات القطر أكثر من خمسين طبيباً»، مشيراً إلى «استمرار بعض العيادات الخاصة في فتح أبوابها لمعالجة المرضى، لكن هناك غياب شبه تام لبعض الاختصاصات مثل الأمراض القلبية وجراحة الأوعية وغيرها، فضلاً عن بدائية الأدوات التي تستخدم، والصعوبات التي تواجه الأطباء أثناء العمل».
يتبدى أكثر حجم المعاناة، عندما يؤكد نقيب أطباء دير الزور أن «عدد الأطباء الموجودين اليوم في الأحياء المحاصرة لم يعد يتعدى 17 طبيباً فقط، فالجوع وندرة الإمكانات أجبرا الكثير من الأطباء على مغادرة المدينة إلى المحافظات الأخرى، والقليلون منهم هاجروا إلى خارج البلاد». ومع ذلك فإن مدير الصحة في المحافظة يشيد «بالجهود التي يبذلها الكادر الطبي والإداري العامل في المستشفيات، التي لا تزال تعمل في المنطقة المحاصرة».
أما بالنسبة لواقع ريف دير الزور الخاضع لسيطرة «داعش» فإن «التطورات الكثيرة التي شهدها الريف لجهة تغير المجموعات المسلحة المسيطرة، أسهمت في تنقل كثير من الأطباء وتبدل إقامتهم، الأمر الذي حافظ على وجود بعض الأطباء في الريف، والقيام بواجبهم الإنساني، لكن في ظل ظروف عمل صعبة وإمكانات محدودة» يضيف نقيب أطباء المحافظة.
في ضوء هذا الواقع الإنساني والصحي المتدهور، الذي يقترب بسرعة من وصف الكارثة، لا يجد من تبقى في مدن وقرى المنطقة الشرقية سوى اللجوء إلى دمشق لمواجهة أمراض الحرب. خيار دونه خطر ومتاعب كثيرة، تبدأ بحواجز «داعش» الإرهابي، والحواجز الأخرى المنتشرة بكثرة وبالعصابات المتخصصة في السطو والسرقة، مروراً بالوقت الذي يحتاجه الطريق، الذي أصبح يقاس بالأيام عوضاً عن الساعات، وانتهاءً بالتكاليف الباهظة في التنقل والإقامة والطعام وأجور الأطباء وغيرها. واخيراً كما يروي مسافرون فإن «داعش» بدأ يتشدد كثيراً في السماح بالسفر إلى خارج مناطق سيطرته.
«باختصار معاناة لا توصف» يقول الدكتور توفيق المهجع، المشرف على مركز الشعلان الطبي في دمشق، الذي يقدم خدماته على نحو شبه مجاني للمرضى الآتين من الجزيرة أو المقيمين خارجها. ويضيف لـ«الأخبار» أن «أطباء المركز يستقبلون يومياً حالات مرضية آتية من محافظتي دير الزور والرقة، ويقدَّم إليهم ما يحتاجونه من رعاية صحية وفق الإمكانات المتاحة في المركز، لا بل نساعدهم بالتعاون مع الزملاء على الحصول على ما تبقى من خدمات من المستشفيات الحكومية».
لا تخرج الأمراض، التي يستقبلها المركز المعروف شعبياً اليوم بعيادات أطباء الدير، عن تلك الشائعة خلال سنوات الحرب والحصار، لكن أكثرها قسوة ومرارة، هي كما يراها الدكتور فاطر الحميد، مدير صحة دير الزور السابق وأحد أطباء المركز المذكور، الأمراض الناجمة عن «الحصار الذي يتعرض له أكثر من 250 ألف مواطن في دير الزور، أو التي تفاقمت بسببه». ويضيف إليها الدكتور سعيد أحمد حنيدي، الاختصاصي في الجراحة العظمية، الحالات التي «إما لا تجد من يعالجها في مناطق الجزيرة، أو تجري معالجتها بطريقة خاطئة أو غير ناجحة نتيجة النقص الهائل في الأدوات والتجهيزات الطبية». ويستشهد بحالة طفلة كانت آتية مع ذويها للتو من مدينة الرقة، وتعاني معالجة غير ناجحة لكسر أصابها.
تعود فكرة إحداث مركز الشعلان الطبي إلى رغبة عدد من أطباء محافظة دير الزور في تقديم العون للمرضى السوريين عموماً، ولمرضى المحافظات الشرقية خصوصاً بالنظر إلى معاناتهم الكبيرة. وبحسب الدكتور مهجع فإن «المركز يعمل فيه نحو 11 طبيباً من مختلف الاختصاصات، يقدمون خدماتهم لكل من يطرق باب المركز، بأجور رمزية مراعاة للفقراء وأصحاب الدخل المحدود، والمتضررين من الأزمة»، لكن يجهد المركز للتعويض وتغطية بعض من نفقاته، بما يحققه من إيرادات جراء تعاقده مع شركات التأمين الصحي.
تجربة يصفها البعض بـ«المقدسة» في وقت فضّلت فيه شريحة من الأطباء السفر إلى الخارج، وتقاضي شريحة أخرى مبالغ كبيرة كأجور للمعاينة والمعالجة بحجة الغلاء، إنما رئيس نقابة أطباء دير الزور، وهو كان قد أخذ عهداً على نفسه بتقديم المعالجة المجانية لكل مريض حتى تنتهي الأزمة، يؤكد أن «الكادر الطبي خارج المحافظة يقوم بواجبه الإنساني كاملاً، وفي كثير من الأحيان يكون العلاج مجاناً، وهو حكماً كذلك للشرائح الفقيرة، وهذا ما تفعله النقابة في عيادتها التي افتتحتها خلال الأزمة».