غزّة | ما أن يسير المارة بالقرب من مقبرة تضم الآلاف من أموات قدر لهم التجمع في بقعة أرضية، حتى يبدأ بالترحم على الأموات والتعوذ من عذاب القبور. لكن أن تتحول تلك القبور إلى مساكن لأحياء، هذا لم يكن بحسبان المارين من هنا. في مقبرة المعمداني وسط مدينة غزّة بالقرب من ميدان فلسطين المعروفة بالساحة، تسكن عدد من العائلات الفلسطينية منذ أيام النكبة عام 1948.
هنا أطفال يلعبون ويلهون فوق القبور ويتنقلون فوقها وكأنها مكعبات ضخمة، يعدّون عدد القبور التي يجتازوها الفتيان ليعلنوا الفائز فيهم. مشهد لعب الأطفال يوحي ببراءة لا تعرف مآسي الحياة. وجوههم لا تحمل سوى أسئلة للمستغربين من حياتهم، هل هم الغرباء أم زائري القبور؟ وتساؤلات أخرى يوجهونها لذويهم عن سبب تواجدهم في هذا المكان، الذي من الواضح أنه غير طبيعي للأحياء.
«حياة أقرب إلى الموت، لا فرق بيننا وبين سكان القبور، سوى أننا نستطيع أن نُسمع من حولنا بما نريد، ونأكل ونشرب ولكن ساكني باطن الأرض يسمعوننا ولا نسمعهم»، كلمات عبر بها المسن الستيني عمر حمودة كحيل لـ«الأخبار»، بوصف حالتهم المعيشية التي يعيشها وعائلته المكونة من 28 فرداً بينهم أبنائه وأحفاده.
يعيش كحيل في مقبرة المعمداني في مدينة غزة منذ أيام النكبة عام 1948؛ فهو لم يجد ملاذا له ولعائلته الفقيرة أيام الهجرة سوى مجاورة القبور وبناء بيت صغير ليعيش به مع عائلته. ويعمل ساقياً لقبور الأموات التي يوكلونه بها أقربائهم، مقابل مال زهيد لا يسد رمق جوعهم، والتي من خلالها أصبح يعرف أسماء الأموات وأعمارهم وأماكن قبورهم، ما أن يأتي قريب لهم يسأل عن أحدها حتى يدله عليها بسهولة؛ فهو بذلك بمثابة الحارس الأمين لهم.
تحلم العائلة أن تعيش في يوم من الأيام في منزل طبيعي حتى وإن كان صغيراً، لكن بعيداً عن قبور حياتها مرعبة وسط الزواحف والعقارب والثعابين والكلاب الضالة، ولكن لم يجدوا بعد سبيلاً لتحقيق حلمهم.
أيام شهر رمضان معاناة من نوع آخر للعائلة، خصوصاً عندما ترى الناس يتراكضون مع اقتراب آذان المغرب إلى بيوتهم ليأكلوا ما حل وطاب لهم من الطعام، أما هم فينتظرون الصدقات والمعونات ليفرشوا سفرتهم الرمضانية فوق أحد القبور، الذي يتسع تجمعهم حوله، في مشهد أقرب إلى المسلسلات الرمضانية الدرامية التي تحاكي الفقر وسكان العشوائيات.
ولسفرة السحور حكاية أخرى أكثر مأساة من الفطور. تقول والدة الطفل حمدان الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره والتي كممت وجهها بشال أسود خجلاً من التعرف على شخصيتها لـ«الأخبار»: «يحترق قلبي على طفلي عندما يأتي ويطلب مني أن أحضر له سحورا كجيراننا، في الشارع الآخر، وتنهمر دموعي كل ليلة عليه عندنا يسألني لماذا لا نعيش كالناس الطبيعيين في بيوت بعيدة عن المقابر والأموات».
وتضيف: «حياتنا مأساة كبيرة، لا معيل لنا سوى الله، وزوجي لا يعمل، فقد أجرى العديد من العمليات الجراحية، ومع ذلك يحاول إيجاد عمل مناسب له يستطيع من خلاله أن يؤمن القوت اليومي على الأقل الذي بالكاد نجده في ظل الظروف الصعبة». أما المسن عمر كحيل فيقول «زي ما انتوا شايفين حياتنا والأموات واحد، ويمكن هما أفضل منا، صاروا عارفين مصيرهم أما احنا ما بنعرف وين رايحين»، مشيراً إلى أنه ينتظر الموت ليدخل حفرة القبر ويرتاح فيها، عله يسمع أقرابه وهم يترحمون عليه وهم لا يسمعونه كما يحدث مع الأموات جيرانه، على حد تعبيره. ولا يختلف لسان حال زوجته المسنة يسرى عن لسانه، والتي تحمل ذنب ما تعيشه للمسؤولين وصناع القرار، الذين لا يلتفتون للعائلات الفقيرة إلا من أجل الإعلام فقط.
تقول «أناشد كل المسؤولين في غزة والضفة، (الرئيس الفلسطيني محمود) عباس و(رئيس الحكومة المقالة اسماعيل) هنية، وكل واحد عنده ضمير أن ينظر إلى حالنا المأساوي وأن يمد يد العون لنا»، مضيفة «لو حاول المسؤولين النظر إلينا وإلى إخواننا الذين يعيشون في القبور لن يكلفهم كثيرا من الأموال التي يصرفونها على المظاهر الباهتة، فنحن لا نتعدى الـ100 عائلة».
حياة المقابر ورّثها المسن كحيل لأولاده، ولا تتوقف معاناة العائلة عند الفقر والعوز، ولكنها تعدت ذلك ووصلت حد الخطر من لدغات الأفاعي والعقارب السامة لساكنيها، كما حصل مع زوجة ابنه الثلاثيني حمودة، التي لدغها عقرب سام. يقول حمودة «نحن نعيش في خطر خاصة وأن الثعابين والعقارب السامة والسحالي والزواحف والفئران تعيش معنا في هذا المكان المخيف»، غير أن ذلك لم يحرم العائلة من الحلم بمستقبل أفضل يمكنهم وأن يتغير حالهم للأفضل وإن كان الحد الأدنى من الحياة البسيطة ولكن تأمن لهم الأمن والأمان.




في الوقت الذي تهمل فيه الحكومة العائلات الفقيرة، تتدخل الجمعيات الخيرية الأهلية لتعويض النقص، اذ قدمت الجمعية الإسلامية في مخيم جباليا شمال قطاع غزة مساعدات خيرية خلال العشر الأوائل من شهر رمضان شملت 1026 أسرة فقيرة بقيمة مالية وصلت إلى 84221 دولار.
كما وزعت جمعية الصلاح الإسلامية في شمال قطاع غزة عدد من المساعدات الخيرية منذ بداية شهر رمضان المبارك شملت 189 طرد غذائي و1016 قسيمة شرائية بقيمة 200 شيكل و1016 كفالة يتيم وطفل فقير بقيمة 500 شيكل لكل أسرة. ودعت الجمعيات الخيرية في الشمال كافة المؤسسات المانحة إلى تكثيف جهودها من أجل مضاعفة هذه المساعدات لتخفيف معاناة الأسر المحتاجة.
(الأخبار)