عمان ــ الأخبار في الإفطار الممتدّ لخمس ساعات في فندق عمّاني، كشف وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، للرئيس الفلسطيني محمود عباس، عن كلمة السر التي ستفتح باب المفاوضات الفلسطينية ـــــ الإسرائيلية المغلق، وقد تسمح للوزير الأميركي، حسب تصريحات صحافية منسوبة إلى مسؤول فلسطيني، بـ«إعلان استئناف عملية السلام قبل مغادرته المنطقة الجمعة».
كلمة السر هي «الجدولة»، جدولة المطالب الفلسطينية والاعتراضات الإسرائيلية؛ فبينما يطالب عباس بإطلاق سراح 1107 أسرى من سجون الاحتلال ـ 107 منهم يقبعون في الأسر منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو 1993 ـ اقترح كيري الإفراج عن هؤلاء على دفعات في سياق التطورات الإيجابية المنتظرة للبدء في المفاوضات. وبالنسبة إلى وقف الاستيطان، تجري جدولة الاستجابة الإسرائيلية لهذا المطلب، عملياً، بقرارات وقف التوسع هنا أو تجميد المشاريع الجديدة إلخ، لكن من دون إعلان سياسي. ومن الواضح أن منطق الجدولة يستهدف تلافي إحراج رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وتمكينه من مواجهة الضغوط الداخلية.
وإذا كان من الممكن ترجمة «الجدولة» في ملفي الأسرى والاستيطان، في إجراءات، فإن جدولة الاستجابة للشرط الفلسطيني المتعلق بحدود 4 حزيران 1967، هي أشبه بلعبة الكلمات المتقاطعة؛ فالاتفاق على ترسيم هذه الحدود، المختلف عليها منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي 242 عام 1967، سيلغي، كما يقترح الأمين العام لجامعة الدول العربية، نبيل العربي، الخلاف على ملف الاستيطان؛ إذ تكون المستوطنات، حينها، خارج الأراضي الفلسطينية. يمكن جدولة مسألة الحدود، إذاً، في سياق «تبادل الأراضي» المقترح عربياً، وبالشرط الفلسطيني القائل بالتبادل بالمثل كمّاً ونوعاً.
هل وقع كيري في عشق الأطباق العربية، وتعوّد قضاء وقت طويل أمام المائدة وتبادل الأحاديث والتعليقات الودية خلال تناول المازات، والصمت الخفيف لدى تقديم الطعام، أم أنه وجدها طريقة ملائمة لإجراء مفاوضات يمكن وصفها بالإيجابية، وأنها «حققت تقدماً» و«سدت الفجوات»؟
في الواقع، لا توجد فجوات جدية تحول دون عقد سلام فوري بالشروط الإسرائيلية؛ فالسلطة الفلسطينية تدرك موازين القوى القائمة، وهي مستعدة للقبول بنتائجها الفعلية في إطار غطاء عربي متوافر، وبصورة غير مسبوقة، لإنهاء ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتفرّغ الجماعي للمواجهة مع «العدوّ المشترك»، إيران. لكن المشكلة الجوهرية التي تعرقل هذا التوجه الذي تقوده، اليوم، السعودية، بكل ثقلها وخصوصاً المالي، تكمن في أن إسرائيل المصممة على ابتلاع الضفة الغربية، لا تجد نفسها مضطرة للأنظمة الخليجية في المواجهة مع الإيرانيين، بقدر ما تحتاجها تلك الأنظمة التي تفتقر إلى القوة العسكرية الذاتية.
المحور الأشهى على مائدة كيري ـ عباس، كان المحور الاقتصادي. هنا، لا توجد مشاكل، بل طموح فلسطيني مفصّل واستعداد أميركي صريح. لدى السلطة الفلسطينية خطة إنمائية بأربعة مليارات دولار، تعهّد الوزير الأميركي توفيرها من خلال منح واستثمارات أميركية وأوروبية، وخصوصاً خليجية. ليس لدى الإسرائيليين اعتراض جوهري على تدفق الأموال على السلطة الفلسطينية، بل إنهم يرون في ذلك ما يطابق تصورهم للحل الاقتصادي ـ الأمني. لكن يبقى مطلوباً من رام الله، بالطبع، أن تجعل مهمة كيري سهلة.
مهمة كيري، حسبما أفاد سياسي أردني رفيع المستوى لم يأذن بالكشف عن اسمه، لا تحظى بالدعم الجدي من الرئيس باراك أوباما، ولا تعبّر عن قرار أميركي بالسعي نحو الحل في هذه الظروف الشرق أوسطية التي تراها واشنطن معقدة وانتقالية وغير ملائمة للتوصل إلى اتفاق نهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. غير أن البيت الأبيض، والكلام لا يزال للسياسي الأردني، أعطى كيري الملف الفلسطيني الإسرائيلي، ليصنع شيئاً ما في الوقت الضائع. وهذا الوقت ثمين بالنسبة إلى الأردن الذي يحتاج إلى الدعم الاقتصادي والسياسي، فينخرط في عملية يكنّ المسؤولون الأردنيون نحوها تشاؤماً عميقاً؛ فلا الأميركيون ولا الإسرائيليون في وارد الاستجابة للحدّ الأدنى من شروط حلّ يمكن إمرارها فلسطينياً، ولا تؤذي المصالح الأردنية.
عبّاس يدرك، أكثر من سواه، أنه لا يوجد حل للقضية الفلسطينية في الأفق، لكنه يدرك أنه في وضع لا يستطيع معه أن يرفض الطلب الأميركي باستئناف المفاوضات، ولذلك فهو يُغرق كيري بالتفاصيل، ويسعى إلى انتزاع ما يمكن انتزاعه منها. شرط عباس الرئيسي والفعلي، هو التحرك في إطار مظلة سياسية عربية مؤسسية وجماعية. وهي المظلة المتمثلة في اللجنة المصغرة المنبثقة من لجنة مبادرة السلام العربية، التي يريدها عباس أن تواكب الخطوات الفلسطينية أولاً بأول، وتتحمل كامل المسؤولية، إزاءها. وقد جرى الترتيب، بالفعل، لاجتماع اللجنة في عمّان مع كيري، بعد ساعات من لقاء الأخير بعباس. وحضر الاجتماع، العربي ووزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، ووزراء ومسؤولون من البحرين والكويت والمغرب وقطر والسعودية والإمارات ومصر، بالإضافة إلى وزير خارجية البلد المضيف.
ولا يكتفي عباس بهذه المظلة؛ فشهية السلطة الفلسطينية مفتوحة لاستعادة العلاقات مع كافة الأطراف العربية من دون استثناء، وتوسيع إطار علاقاتها وتحركاتها، مستفيدة من العزلة التي وقعت فيها «حماس» بعد انفصالها عن المحور السوري الإيراني وخسارتها للدعم المصري بعد سقوط الحكم الإخواني في القاهرة، وتراجع دور حليفها القطري.
خلال الأشهر الأخيرة، حققت رام الله اختراقات في تحسين العلاقة مع سوريا ولبنان، وتأمل فتح خطوط ودية مع حزب الله وإيران، بينما تتوطد علاقاتها مع السلطات المصرية الجديدة، في سياق تجميع الأوراق لتحجيم حماس وإنهاء الانشقاق الفلسطيني ـ الفلسطيني، لمصلحتها.
قبل المفاوضات، وبها ومن دونها، هناك مسار جدي وحيد هو المسار الأمني. فهل تنقذ حماس نفسها من التهميش بتفجيره؟ سؤال يقلق الأطراف، لكن كيري يبدو مطمئناً. أيعني ذلك أن التفاهمات بين واشنطن والإخوان المسلمين في المنطقة، لا تزال قائمة؟