تزامن على نحو غير مقصود خلال الأيام الماضية، مشهدا قيام كل من حزب البعث و«الائتلاف» السوري المعارض بانتخاب قيادتين جديدتين لهما. وحجم التغيير الكبير الذي شهدته القيادتان، قاد إلى استنتاج أساسي، وهو اعتراف البعث والائتلاف ــ كل منهما لأسبابه ــ بأنّ نموذجه بهت وصار بحاجة إلى تجديد جوهري على مستويي الأداء والقيادة. واللافت أن نتائج «عملية إعادة البناء» فيهما، أسفرت عن خاسرين اثنين أساسيين هما «الإخوان المسلمون» في الائتلاف وطبقة الحرس القديم التاريخية في البعث. وكون هاتين المجموعتين شكّلتا على مدار العقود الماضية، البنية التاريخية لقطبي الصراع في سوريا، فان إزاحتهما، ضمن مشهد زمني متقارب، تركت في اثره سؤالاً عما إذا كان ذلك سيمهّد المسرح لحوار لاحق بين البعث الجديد الخالي من الحرس القديم والائتلاف المتضائل به ثقل «الإخوان».
لكن مصدرا سوريا مسؤولا ومتداخلا بعمل خلية الأزمة السورية المنقادة من القصر الجمهوري، يرسم خلفيات أخرى لهذين الحدثين. ويرى أنّ التغيير في قيادة حزب البعث حدث ضمن رؤية جديدة شاملة لتركيبته ودوره، أما التغيير في نوعية قيادة «الائتلاف»، فقد حصل تحت تأثير اضطراره لتكيفه مع مستجدين اثنين حصلا مؤخراً: سقوط حكم «الإخوان» في مصر، وانتقال الحصن الدافئ للمعارضة من الدوحة للرياض.


كيف يقرأ النظام هذين التطورين؟

يكشف المصدر السوري عينه أنّه منذ أشهر يسعى رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان إلى احداث انقلاب داخل الائتلاف المعارض، وذلك لمصلحة تحجيم قوة الإخوان المسلمين بداخله وإيصال أحمد الجربا، تحديداً، إلى رئاسته. واتكأت الرياض في تنفيذ هذه الخطة على ميشال كيلو الذي طلبت منه ادخال العشرات من اتباعه القدامى والجدد، إضافة إلى مستقلين آخرين، إلى داخل إطار الائتلاف التنظيمي، بهدف مراكمة فارق عددي فيه تسمح بإزاحة «الإخوان» عن قيادته.
وتعتبر سميرة مسالمة ــ ودائماً بحسب المصدر السوري ــ نموذجاً لنوعية الأسماء التي طلبت الرياض من كيلو إدخالها؛ فهي بالإضافة إلى كونها محسوبة عليه، فإنها تحظى أيضاً برعاية شخصية من ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي رشّحها لموقع مسؤولة الاعلام في «الائتلاف». وينتظر اعلانها بهذه الصفة قريباً.


أحمد الجربا: السجل الشخصي

أما قصة إيصال أحمد الجربا لرئاسة الائتلاف فجَرَت من ألفها إلى يائها في مطبخ الاستخبارات السعودية.
فالرجل لديه سجل أمني مشترك لدى كل من الأمن القطري والسعودي والسوري لقيامه بارتكابات ذات صلة بالدول الثلاث، ما جعل أجهزتها الأمنية تنسّق في ما بينها عمليات ملاحقة له بخصوص بعض القضايا.
ويكشف المصدر السوري عن وقائع ورد فيها اسم الجربا في وثائق الأمن السوري كمطلوب بقضايا جنائية ونصب واحتيال وشبهات مختلفة منها تكليفه بعمليات اغتيال لم تنفذ (!!). ويؤكد أنّ بعضها موجود، أيضاً، في سجلات الأمن القطري والسعودي، لصلتها بهاتين الدولتين:
اسمه الكامل المسجّل في هذه المحاضر الجنائية هو «أحمد العونيان المدلول العاصي»؛ وتورد احداها أنه بموجب اتفاق تبادل الموقوفين القائم بين أجهزة الأمن السعودية والسورية (أوقف مع نشوب الأزمة السورية)، قامت الرياض عام ٢٠٠٨ بتسليم دمشق «الموقوف أحمد الجربا» بتهمة تهريب مخدرات. وحوكم وسجن آنذاك. كما تورد هذه السجلات واقعة أخرى، مدوّنة أيضاً لدى أجهزة الأمن القطرية، مفادها أنه بعد انقلاب أمير دولة قطر حمد بن خليفة آل ثاني على والده الأمير خليفة، فرّ آخر وزير خارجية قطري في عهد الأخير إلى سوريا، وكان متشدّداً في مطلب استعادة الحكم. وحدث آنذاك أنّ جماعة الأمير حمد طلبت من أحمد الجربا قتل وزير الخارجية القطري المنفي في سوريا، وتلقى منهم مكافأة مالية بعدما وعدهم بأنه سيقوم بالمهمة. لكن الجربا بدل ذلك اتصل بجماعة الأمير خليفة الأب وفضح لهم الأمر، وحصل أيضاً منهم على مكافأة مالية. وأثارت هذه القضية حينها تداعيات سياسية، ما دفع جهاز أمن الدولة السوري للتحقيق بها، وسجن الجربا لمدة خمسة أشهر بتهمة النصب والاحتيال.
تذكر واقعة أخرى محفوظة في سجلات الأمن السوري أنّ الجربا تقرّب من السفير الليبي في دمشق خلال الفترة التي أعلن فيها معمر القذافي نفسه ملك ملوك القبائل وأفريقيا. ونجح بإقناعه في أن نسق معه إرسال وفود عشائرية سورية إلى ليبيا لمبايعة القذافي، وقدّم نفسه حينها للقيادة الليبية على أنّه شيخ عشيرة شمّر في منطقة الجزيرة السورية. وعام ٢٠٠٤ أخذ الجربا يبحث عن مدخل للتعرف إلى الرئيس رفيق الحريري على اعتبار أنه أحد شيوخ عشيرة شمّر المترامية أفخاذها بين سوريا والأردن والعراق، وبالأساس في السعودية. وقبل أن تنقطع أخباره في سوريا، قبيل بدء الأحداث فيها، طاردته أجهزة الأمن السورية بتهمة إدارته بيوت دعارة في كل من دمشق والحسكة.


قرارات اجتماع الدوحة السرية

مؤخراً، بدأت المخابرات السعودية بإشراف مباشر من بندر، تروّج لاسمه بوصفه شيخ عشيرة شمّر السورية، وعرضته داخل «الائتلاف» كمسؤول عن ملف مشتريات التسلح. وواضح أن بندر فاوض تكتلات واسعة في «الائتلاف» على القبول به رئيساً بمقابل أنّه يضمن تقديم سلاح كاسر له. وتؤكد معلومات الأمن السوري أنّ اسم الجربا كرئيس للائتلاف أقرّ بضغط من السعودية خلال اجتماع الدوحة الأخير للدول الراعية للمعارضة السورية، والذي أسفر عن أجندة سرية، بينها تفاهم باريس والرياض على أن تقوم الأخيرة بشراء سلاح نوعي للمعارضة فيما تتكفل الاستخبارات الفرنسية بإيصالها إلى الداخل السوري. وأبرز سلاح تعهدت السعودية بشرائه هو صواريخ «ميلان» المضادة للدروع وصواريخ فرنسية مضادة للطائرات. وقد اشترت السعودية فعلاً كمّاً من صواريخ «ميلان»، وأُرسلت بجهد فرنسي إلى سوريا، ولكن لا تزال صفقة صواريخ «رفال» تنتظر في المخازن العسكرية السعودية قرارا أميركيا بإرسالها لوحدات رئيس أركان الجيش السوري الحر سليم ادريس. وتشير المعلومات إلى أنّ هذه الصواريخ الفرنسية الصنع لم يتم ابتياعها من فرنسا، بل من السوق السوداء العالمية، وتدبّر أمر الحصول عليها سماسرة سلاح نمساويون. وجهدت الاستخبارات السعودية في تلميع الجربا بين الدول الراعية للمعارضة السورية خلال اجتماعها في الدوحة، فقدمته على أنّه شيخ عشيرة شمر السورية، وأن مجموعاته تشرف على معبر اليعربية الحدودي، علماً أن شمر في سوريا منقادة منذ عقود من شيخين اثنين، هما شمر حميدي دهام الهادي وهو على علاقة برئيس اقليم كردستان العراق مسعود البرزاني، وعدي الميز المدلول. وعن قصة أن للجربا جماعات في الحسكة والقامشلي، فمعروف على مستوى منطقة الجزيرة السورية، أنه منبوذ ليس فقط من قبيلته بل حتى داخل عائلته الصغرى. فوالده عونيان نأى بنفسه عنه منذ انفضاح أمر إدارته لبيوت الدعارة، رغم أن الجربا حاول آنذاك أن يشيع أنه يدير شركة لمساعدة الشباب على الزواج والتعارف وليس الدعارة. كما أن شقيقه زيد مؤيد للنظام، فيما شقيقه الأكبر نواف لا صلات سياسية له.

(غداً: كيف يقرأ النظام تغيير القيادة القطرية لحزب البعث)




مراحل حضانة «الائتلاف»

بحسب المصدر السوري المسؤول، فإن «الائتلاف» منذ نشأته وهو يتنقل من حضن اقليمي إلى آخر. وعند استقراره في حضن أية دولة، فإنّه يسارع لاجراء انتخاب رئيس له، تسميه الدولة الحاضنة، وحينما تتخلى الأخيرة عن هذا الدور، تُختار لرئاسته شخصية جديدة تسميها الدولة الوارثة لدور الحضن. فانتخاب عبد الباسط سيدا جاء تطبيقاً لقرار اجتماع «الناتو» العام الماضي، الذي طلبت فيه تركيا ضرورة سحب الورقة الكردية من أيدي طهران ودمشق اللتين نجحتا في الامساك بها وبدأتا توظفانها لمعاقبة أنقرة. واثر الاجتماع استدعى السفير الأميركي في سوريا روبرت فورد وفداً من أكراد سوريا، وطلب منه انضمام الأكراد إلى الثورة السورية مقابل أنه يضمن لهم أن يتضمن البرنامج السياسي للمعارضة السورية، عند إعداده، منحهم حكماً ذاتياً وحقوقاً ثقافية. ونظراً لفشل الحوار بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والزعيم الكردي عبدالله أوجلان، تم اسقاط سيدا، ليحل مكانه جورج صبرا رئيساً لمرحلة انتقالية. وسبب الإتيان به هو بروز الحاجة لاظهار أنّ المعارضة ليست تكفيرية ولا تضطهد الأقليات. ولكن بعد بروز الميل الأميركي لإنشاء حوار بين النظام والمعارضة، تمّ الإتيان بأحمد معاذ الخطيب الذي أعلن أنّه مع الحوار. ثم أسقطه القطريون والفرنسيون، وأيضاً «السي اي اي»، بعد بروز مقولة مشتركة بين هذه الأطراف تتحدث عن ضرورة أن يتزامن الحوار مع إنجاز عسكري للمعارضة. والآن يستكمل هذا المسار مع وصول رجل بندر، أو واجهته إلى رئاسة الائتلاف: أحمد الجربا.