ريف دمشق | الرهبة تعلو وجوه ركاب السيارات المتجهة إلى مطار دمشق الواقفة على الحاجز الأول الواقع في منطقة القزاز، حيث وقع الانفجار الشهير. سيلفتك منزل البيوت المتهدمة في المنطقة القريبة من وسط دمشق. معظم الواقفين للتفتيش على الحاجز العسكري يذهبون إلى المطار بغرض السفر خارج البلاد، يحملون هواجسهم عن الطريق أو أصوات الحرب التي تملأ سماء دمشق، كصورة أخيرة عن وطنهم المنكوب. بعضهم الآخر يتجه، للمرة الأولى منذ أشهر، لاستقبال أحد الأقارب المغتربين، والقلق بادٍ على الوجوه.
«سيطلب إلينا عناصر الجيش العودة إن لم يكن الطريق آمناً»، جملة تسمعها من أشخاص عدة، تحمل القليل من التفاؤل في ما يخص مصير المارّين على الطريق. على طرفي الطريق تبدأ مشاهد الخراب التي تشكّل وجه دمشق الأخيرة في نظر المسافرين. البعض يغمض عينيه كي لا يرى مناظر الخراب، محاولاً أن يستذكر سهرة الليلة الماضية أمام أضواء قاسيون وبيوت دمشق اللامعة تحته. أصوات الرصاص والقصف تبدو أقرب مع الوصول إلى محاذاة بيت سحم، التي تفصل الأوتوستراد الدولي عن ببيلا والمفارق المغلقة خلالها للوصول إلى مخيم اليرموك، الواقع تحت أيدي مسلّحي «جبهة النصرة». لن تمنع نفسك من سؤال السائق عن المنطقة وما جرى فيها؛ إذ شهدت تصاعداً مخيفاً للعنف خلال الشتاء الفائت، ما أدى إلى إغلاق المطار فترة طويلة، إلى أن سيطر الجيش على المناطق المحيطة، بعد أن أجرى تمشيطاً كاملاً لمنع تسارع الأحداث بنحو يوقع المطار الدولي تحت سيطرة المعارضة المسلحة.
مشاهد عنيفة من الخراب، يفصلها الأوتوستراد عن مبانٍ وادعة قائمة، على الجهة المقابلة، وكأنها من بلد آخر. إنها جرمانا. يمكن من النظرة العامة إلى طريق المطار أن تقرأ مخاوف أهل جرمانا، وهي المنطقة المختلطة طائفياً والآمنة نسبياً. فعلى تخومها يرابط مسلحو المعارضة في المناطق القريبة.
وهذه المناطق الجارة هي مراكز انطلاق القذائف باتجاهها. قذائف ما زالت تسقط على مبانيها بين يوم وآخر، ورغم تأمين المناطق المحيطة مباشرةً، التي تحاصر جرمانا من جميع الجهات، لم تتوقف القذائف، حتى بعد تأمين طريق المطار؛ إذ إن الأوضاع الأمنية السيئة في مناطق كفربطنا وحمورية وسقبا، وصولاً إلى المليحة، تفرض على أهل جرمانا ألا يتفاءلوا كثيراً.
أحد الجسور ضمن طريق المطار متآكل في أحد طرفيه. يقول السائق: «هُنا كانت الاشتباكات».
لا ريب إذاً في إغلاق المطار مرات عدة خلال الأشهر الماضية. الخطّ المعدني الفاصل بين جانبي الطريق محطّم بعض أجزائه، موحياً بالكثير من العنف الماضي. لافتة تشير إلى اتجاه بلدة السيدة زينب والقرى المشتعلة من حولها كالذيابية والحسينية. حاجز يغلق الطريق إليها، مشدّداً على المارين. أراضي عقربا تلوح واسعة، إلا أنها آمنة ظاهرياً. لا أحد يستطيع توقع ما ستنتجه الأيام المقبلة، على الرغم من وضوح القبضة العسكرية الممسكة بزمام الأمور على طول طريق المطار والمناطق المحيطة به.
العمليات التي تجري بالقرب من هذه المناطق تعطي طمأنينة للعسكريين الموجودين، حيث تردهم الأخبار الجيدة بعد أشهر طويلة من سيطرة «الجيش الحر» على عدد من بلدات الغوطة الشرقية. مفرق الدخول إلى مدينة الأرض السعيدة يبدو كئيباً، فلم تعد الأرض سعيدة بعد ما شهدته من معارك. ولم تعد فخامة مطاعم طريق المطار مجدية، لجذب أهل دمشق وضيوفهم بعدما حل الموت والدمار ضيفين ثقيلين على المنطقة. وفي الجزء الأخير من الطريق قبل الوصول إلى المطار، تلوح قرية الغزلانية. متاريس متصلة على طول الطريق بين الأوتوستراد والقرية، لتصبح مفصولة بشكل تام. مطارات عسكرية تحت سيطرة الدولة السورية هي ما يميزه المرء قبل المطار المدني.
المتاريس الترابية محيطة فيها بشكل كامل منعاً للاقتراب أو التقاط الصور. داخل حرم المطار يودّع السوريون بعضهم بعضاً؛ إذ لا أعداد ملحوظة من الغرباء بين زوار البلاد. بعض المسافرين يصلون مبتسمين لذويهم، إنما نظراتهم متحفّزة لما سيرونه في البلد الذي شغلت أخباره العالم، ولا سيّما أن المشهد الأول الذي تقع عليه عيون الواصلين هو «هنغار» مدمّر بعد هبوط قذائف ضمن أرض المطار، الواقع على بعد 25 متراً جنوب شرق دمشق. خلف المطار تقع بلدتا حران العواميد والعتيبة، حيث كانت إحدى المناطق التي اتهمت السلطات السورية المعارضة المسلحة باستخدام الأسلحة الكيماوية، لأول مرة في دمشق، ضد عناصر الجيش السوري. المطار يبدو صامداً، يعبّر عن تركيز الدولة السورية على معارك الغوطة الشرقية؛ إذ شهد محاولات لضربه من قبل مسلحي المعارضة الشهر الفائت، ما أدى إلى تعطيل الرحلات موقتاً.
يبدو المطار المتواضع في تجهيزاته مكاناً مناسباً للسوريين اليوم لوداع بعضهم بعضاً، ومسح دموع المسافرين خارج وطنهم حاملين معهم خوفهم على من خلّفوه وراءهم من أهل وذكريات غابت، لتحل مكانها صور الخراب.