دمشق | يشكّل حي القابون أهم البوابات الشمالية للعاصمة السورية دمشق. وهو من أولى المناطق التي خرجت فيها التظاهرات الاحتجاجية في بداية الأحداث السورية. التوجه نحو التسلّح في الحي لم يكن مفاجئاً، بل أخذ طابعاً تصاعدياً، في البداية كان يُمارَس تحت غطاء حماية التظاهرات السلمية من تجاوزات الأجهزة الأمنية. ثمّ ما لبثت أن تحولت القابون إلى ساحة حرب دامية، قدَّرت مصادر غير حكومية عدد ضحاياها بـ600 قتيل، من أصل 50 ألفاً يقطنون الحيّ.
منذ اندلاع الاشتباكات، وارتفاع حدتها بالتوازي مع ارتفاع حجم التسلح، قام بعض شيوخ القابون ووجهائه، بالإضافة إلى مجموعات من الشباب تعمل على إنجاز المصالحة الوطنية، بمحاولات عدة كان هدفها الوصول إلى هدنة قابلة للاستمرار أطول وقت ممكن، «إلا أن جميع هذه الاتفاقات، وبعد الجهود المبذولة لإقناع الطرفين بإبرامها، لم تكن تقوى على الصمود تحت ضغط الخروقات المتكررة من العناصر التي تفلّتت من عقالها»، يقول أمجد. ن، الطالب الذي انخرط برفقة عدد من أبناء الحي، في مجموعات المصالحة المحلية. ويعقّب في حديثه لـ«الأخبار»: «كنا نبحث بجد عن تلك الشخصيات المعروفة في الحي، والتي بإمكانها أن تشكِّل ضمانة للطرفين، وتمون عليهم، من أجل الالتزام بوقف إطلاق النار. والنتيجة كانت دائماً هي اعتماد أولئك الذين لا يأبهون لا بأمن المدنيين ولا بهدنة، على خلق أدنى الذرائع لإعادة المنطقة إلى حالة الصراع. ليبدأ بعدها كل طرف بتحميل الآخر مسؤولية خرق الهدنة، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت!».
وعلى الأرض، تكمن أهمية الموقع الاستراتيجي للقابون بكونه يمثّل إحدى زوايا المثلث الذي يجمعه بحرستا شرقاً، وجوبر جنوباً. ما يجعله ممراً هاماً لطالما سعى مسلحو المعارضة إلى استثماره، على طول جبهة الغوطة الشرقية، وذلك بهدف إيصال الإمدادات العسكرية إلى منطقة دوما، التي تجسّد حالياً الثقل الأكبر ونقطة النفوذ الحالية للمعارضة المسلحة في دمشق وريفها. وهذا ما دفع بالجيش السوري إلى القيام بعمليته العسكرية الجديدة المستمرة منذ مطلع الأسبوع الجاري في الحي. حيث تمكنت وحدات من الجيش، يرافقها عناصر من «جيش الدفاع الوطني»، من السيطرة على غالبية مناطق القابون، فيما عدا بعض الجيوب التي يتحصن فيها المسلحون. أحد النازحين (32 عاماً) الذي رفض الكشف عن اسمه، قال لـ«الأخبار»: «الجيش أمن لنا نقاط عبور للمدنيين، وقد تم تسليم هذه النقاط إلى اللجان الشعبية. ما نخشاه حقاً هو أن تقوم هذه اللجان بذات الممارسات السيئة التي شهدتها الأحياء الأخرى الخاضعة لسيطرتها». وأضاف: «لم تعد المشكلة في القابون بين من يريد الحرية ومن يؤيد الرئيس السوري (بشار الأسد). بل إنها اليوم، بين من يسعى لإعادة الأمان للحي، ومن يعربد فيه، وهؤلاء موجودون هنا وهناك».
ميدانياً، تمكن الجيش من السيطرة على ما يقارب واحداً ونصف كيلو متر من مساحة الحي على طول الشارع الرئيسي، وهي المنطقة الممتدة من الحارات الجنوبية للقابون إلى بداية طريق المتحلق الجنوبي. وبهذا يكون الجيش قادراً على قطع إمداد الأسلحة، وتقييد حركة المسلحين بين أحياء جوبر والقابون وزملكا وحرستا. وتشير المعلومات الميدانية إلى أنّ الجيش عثر على نفق بطول 500 متر، ويمتد من محطة الكهرباء الرئيسية في القابون، ليصل باتجاه الشرق نحو منطقة عربين والمتحلق الجنوبي.
وأعلن وزير الكهرباء، عماد خميس، أنّ «ورشات الصيانة تعمل على إعادة تأهيل وإصلاح محطات الطاقة الكهربائية في منطقة القابون الصناعية بدمشق، ووضعها في الخدمة بأقصى سرعة». في المقلب الآخر، نقلت شبكات الأخبار المعارضة عن «المجلس العسكري في دمشق» إعلانه «سقوط صاروخيّ أرض ــ أرض من قبل قوات النظام السوري، مما خلف أضراراً هائلة في مكان سقوطه». وعن الاشتباكات الدائرة هناك، نقلت مواقع معارضة أخرى أنباءً عن قيام كتيبتي «شهداء دوما» و«جيش المسلمين» بصدِّ «محاولات قوات النظام لاقتحام الحي، تحت غطاء ناري كبير من قصف بالهاون وراجمات الصواريخ. وقد قامت بمنع أكثر من 100 شخص من الأهالي، الذين تجمعوا في مسجد الغفران، من الخروج منه». وكان «الائتلاف» المعارض قد ناشد، في بيان، الأمم المتحدة إرسال «رسالة قوية لنظام الرئيس بشار الأسد بضرورة اطلاق سراح المدنيين العالقين في المسجد بالقابون فوراً»، وقد أنكر أحد سكان الحي، م. أبو القصب هذه المعلومات في حديثه مع «الأخبار» قائلاً: «ها هو من يريد الخروج من أبناء الحي يقف في الطابور الطويل أمام نقاط العبور التي تم تأمينها. لا وجود لمدنيين في الجوامع، إلا لمن أراد الصلاة فيها، أما في ما يخص اللجوء فغالباً ما يتم الاعتماد على المدارس السبع الرئيسية المتواجدة في الحي». كذلك، أكدت إحدى النازحات من الحي لـ«الأخبار» أنّه «صحيح. هناك جوامع لجأ إليها المدنيون بعد ارتفاع وتيرة الاشتباكات في الحي. إلا أنهم جميعاً غادروها يوم أمس (أول من أمس). وهناك جوامع أخرى، كالجامع الكبير، يتحصن فيها المسلحون. وقد قاموا باقتحام بعض المنازل وحفروا فتحات في جدرانها ليتمترسوا خلفها». وأضافت: «تعامل الجيش كان واضحاً لجهة الحفاظ ما أمكن على حياة المدنيين. إلا أن اللجان الشعبية هي من أساءت لنا، فعدا الترهيب الذي مارسته علينا، بحجة أننا آوينا المسلحين في الحي، قامت عناصر من اللجان بسرقة بعض البيوت، والاستيلاء على أجهزة الهواتف المحمولة التي نملكها».
وبهذا، يكون الجيش السوري في طريقه لإحكام الطوق حول محيط غوطة دمشق الشرقية، ومن شأن ذلك تعزيز السيطرة على حيّ القابون أن يؤمن قطع طريق الإمدادات عن المسلحين المتواجدين في مناطق الغوطة الشرقية، مما يؤدي كذلك إلى التخفيف من قذائف الهاون التي تسقط على قلب العاصمة دمشق من بساتين القابون، بحيث إنّ تأمين المثلث «القابون ــ حرستا ــ جوبر» سيمهّد الطريق أمامه لخوض معركة أسرع وأقل تكلفة في دوما، بعدما باتت محاصرة من كل الاتجاهات. ويبقى البحث عن سبل «التطهير التام» للجيوب المتواجدة في المنطقة، هو التساؤل الأساسي للمدنيين الباحثين عن سبل تلافي خطر الوقوع في أخطاء التجارب العسكرية السابقة، التي كانت نتيجتها عودة المسلحين إلى المناطق التي غادروها من جديد.