شيئاً فشيئاً تنتقلُ المعارضةُ السوريّة (بشقّيها، السياسي والمسلّح) إلى ضفّة أخرى، بعيداً عن المقاربة الغربيّة للملف السوري. وباستثناء «قوات سوريا الدوليّة» وبعض الأصوات المُعارِضة التي أبقَت خطوطاً مفتوحةً مع موسكو، يوحي خطابُ المُعارضة منذ مخاضات محادثات جنيف الأخيرة بأنّها رَهنت كلّ «البيض» للسلة الإقليميّة (السعودية بالدّرجة الأولى، وعلى نحو أقل التركيّة). «اتفاق وقف الأعمال القتالية» كان آخر المناسبات التي أوضحت الهوّة بينَ «الهيئة العليا للتفاوض» والمجموعات المسلّحة المنضوية تحت لوائها من جهة، وبين الداعمين الغربيّين والخطاب الدولي بعمومه من جهة أخرى (بما في ذلك الهيئات الأمميّة).
مفاوضات تسعى إلى إبرام اتفاق خاص بـ«جيش الإسلام»
ففيما استمرّ هؤلاء في السعي إلى «بث الروح المعنويّة» في الاتفاق الهش، واصلت «الهيئة» إصرارَها على «نعي الاتفاق» والسعي إلى إظهاره في صورة «المولود الميت» منذُ الساعات الأولى لإعلان الراعيين التوصل إليه. أحدثُ الفصول في هذا السياق كان موعده المؤتمر الصّحفي الذي عقده «مُنسّق الهيئة» رياض حجاب في باريس أمس، وكرّسَ مُعظمَه للإيحاء بأنّ انهيار الهدنة بات قاب قوسين. وإذا كان من المفهوم في حالاتٍ مُماثلة أن يسعى كلّ طرف من أطراف الاتفاق إلى مهاجمة الآخر واتهامه بالتسبّب في إفشاله، فإنّ ذهاب حجاب بعيداً إلى حدّ التلويح بمقاطعة محادثات جنيف المُفترضة في التاسع من الشهر الجاري وتكرار كيل الاتهامات للإدارة الأميركيّة بالتآمر على «الثورة» جاءَ ليكمل الهدايا الكثيرة التي حصلت عليها دمشق من المُعارضة دونَ سواها. ورغم أنَ المنسّق لم يُعلن بصراحة النيّة في مقاطعة المحادثات، لكنّه أكّد أنّ «الظروف غير مواتية (...) لن نذهب إلى المفاوضات إلا على قاعدة عدم وجود أي دور للأسد وزمرته ممن تلطخت أيديهم بالدماء في مرحلة الانتقال السياسي»، وأضاف: «من المبكر القول إنّنا لن نذهب إلى المفاوضات في جنيف». وإكمالاً للمشهد، تزامنت تصريحات حجاب في شأن الهدنة مع تصريحاتٍ مشابهة أدلى بها «المسؤول السياسي لجيش الإسلام» محمّد علوش. الطرفان أكّدا مواصلة الجيش السوري وحلفائه حشد القوات تمهيداً للسيطرة على مزيد من الأراضي، وبشّرا بضآلة فُرص استمرار الهدنة. كذلك، أعلن «جيش الإسلام» مغادرة الهدنة، قبلَ أن تُعلن موسكو التوصّل إلى اتفاق معه، ويعاود نفي حدوث أي اتفاق. وفي هذا السياق لمّح مصدر مرتبطٌ بمجموعة مسلحة أخرى إلى «احتمال وجود مفاوضات تحت الطاولة بين النظام وجيش الإسلام». المصدر قال لـ«الأخبار» إنّ «هناك مؤشرات كثيرة تدلّ على ذلك، لكنّنا لم نستطع الجزم بعد». ووفقاً للمصدر، فإنّ تلك المفاوضات «تسعى إلى إبرام اتفاق خاص بجيش الإسلام، مختلف عن اتفاق الهدنة مع الجميع». لكنّ مصدرَين مرتبطَين بـ«جيش الإسلام» أكّدا (كلّ على حِدة) أنّ «هذا الكلام لا نصيبَ له من الصّحة على الإطلاق». على الضفة الأخرى، كانَ المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا يواصل النّهج الدّولي المتمثّل بالتقليل من خطورة الخروقات المتواترة للهدنة، والإيحاء بأنّها طبيعيّة ومُتوقّعة. دي ميستورا قال في مقابلة مع قناة «فرانس 24» إنّه «سيكون هناك دائماً من سينتهك الهدنة، ومن المتوقع أن نرى حالات عديدة لخرقها، ولا سيما من قبل تنظيمي داعش وجبهة النصرة». وتحدّث المبعوث الدولي عن «مُحفّزات ملموسة» للعملية السياسيّة، وأشار إلى أنّ «مصير الأسد شأنٌ سوري». الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كانَ قد استمع من قادة عدد من الدّول الغربيّة ترحيباً باستمرار «صمود الهدنة الهشة وضرورة استغلالها» في دفع المسار السياسي، فيما دعت كلٌّ من فرنسا وبريطانيا وألمانيا المعارضة السورية إلى حضور المباحثات، مع تّأكيد ضرورة «السّماح بوصول المساعدات الإنسانية واحترام الهدنة». النقطتان الأخيرتان وفقاً لما أكده مصدر من «الهيئة العليا للتّفاوض» مُدرجتان «ضمن عدد من الشروط التي أبلغتها الهيئة لبعض الأصدقاء». المصدر الذي طلب عدم الكشف عن اسمه أكّد لـ«الأخبار» أنّ «الهيئة لن تذهب هذه المرة إلى جنيف قبل تحقيق شروطها، أو دعنا نقل مطالبها». ليبدو المشهد قبل أيام من المفاوضات الموعودة أشبه بالتمهيد لتكرار ما حصلَ في الجولة السّابقة: رفعُ السّقف ثمّ التمنّع عن الذهاب إلى جنيف، فهل تتطابقُ الخاتمتان؟