كان الدكتور ألبير داغر موفقاً عندما حاول مقارنة الوضع الراهن للتدهور الحاصل في سعر صرف الليرة السورية بانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية بين عامي 1982 ــ 1992، وذلك في مقالته المنشورة في جريدة «الأخبار» (26/6 /2013) تحت عنوان «تدهور سعر صرف الليرة السورية: قراءة مقارنة». وذكرنا د. داغر بأن انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية كان بسبب نظام حرية القطع السائد، وهذا لا ينسجم مع طبيعة اقتصاد سوريا شبه الريعي، سواء القائم على النفط أو السياحة والعقارات.
ومع ذلك يجب عدم وضع كل اللائمة على مصرف سوريا المركزي والسياسات النقدية المتبعة في ما يتعلق بما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في سوريا من ضعف في القوة الشرائية لليرة السورية وتدهور سعر الصرف، لأنه حتى يتم الحفاظ على قوة الليرة السورية يجب التنسيق والانسجام التام بين السياسات الاقتصادية المختلفة وبين السياسة النقدية، وعلى وجه الخصوص بين السياستين النقدية والمالية. وإن قوة العلاقة بين المصرف المركزي والحكومة تبدأ من قوة علاقته مع وزارة المالية، وهي العلاقة التي تهدف إلى رسم الإطار العام للاقتصاد الكلي والذي يستهدف تحقيق استقرار الأسعار كهدف نهائي معلن للسياسة النقدية، وذلك في إطار التكامل والتشاور مع السياسة المالية.

أخطاء المصرف المركزي

ولكن يمكن، أيضاً، الاعتراف بأنّ هناك سياسات خاطئة في إدارة المصرف المركزي وفي الأدوات النقدية التي استخدمها سواء خلال الأزمة أو قبلها، والتحرك البطيء للمصرف المركزي وانعدام الاستراتيجية الواضحة أو استخدام البدائل للسياسة النقدية التي تمنح المصرف المركزي المرونة اللازمة في التعامل مع الصدمات المختلفة والمتغيرات شبه اليومية، وهنا نشير إلى:
ــ أن من أساسيات قوة أي عملة أن يكون هناك ثقة فيها وفي النظام المصرفي. وهذا يتطلب شفافية في طرح أي إجراء نقدي وصدقية كبيرة عند وضع أي سياسة نقدية والالتزام بكل تصريح رسمي يصدر عن هذه المؤسسة. ما حدث للأسف تصريحات شبه يومية وتهديد ووعيد، وأهداف يعلم المصرف المركزي سلفاً أنه غير قادر على تحقيق أي منها، وخاصة في الآونة الأخيرة، ولا يجوز لمؤسسة ضخمة أن تضع اللائمة على المضاربين فهذه مهنتهم ومصالحهم، وخاصة أنهم فهموا آلية عمل المصرف المركزي في مزادات العملة، وبالتالي لا يجوز لهذه المؤسسة أن تقول مثل هذه الكلام لأن مهمتها ومن مسؤولياتها الحد من عمل المضاربين والسيطرة على أعمالهم في ظل الظروف الطبيعية، فما بالك في ظل الظروف الراهنة.
ــ اعتمد المصرف المركزي سعر الصرف كهدف نهائي وليس كهدف وسيط، علماً أن سعر الصرف هو انعكاس لقوة الاقتصاد ولمدى الثقة بالنظام المصرفي المحلي الذي يعزز الثقة بالعملة المحلية، وبالتالي سعر الصرف هو نتيجة لسياسات متبعة وليس هدفاً أو وسيلة لتحقيق هدف. وبذلك ابتعد المصرف المركزي عن تحقيق الهدف الأساسي المعلن كهدف نهائي، وهو استقرار أسعار السلع في الأسواق، وأخلَّ بالتزامه في تدعيم السياسات الاقتصادية على المستوى الكلي في مجال تعزيز النمو الاقتصادي والتشغيل.
ــ تم استخدام مفهوم استقلالية المصرف المركزي على نحو خاطئ، فوفقاً للإجراءات والقرارات النقدية المتخبطة والمتعارضة والمتناقضة مع بعضها بين الحين والآخر، أو القرارات التي قد تكون صحيحة لكنها صدرت في الوقت غير المناسب (متأخرة)، يبدو جلياً عدم وجود أي تنسيق أو اتفاق بين الحكومة وبين المصرف المركزي، وكأن (المركزي) يقوم باتخاذ قرارات ارتجالية بمعزل عن الاقتصاد الوطني، فاستقلالية المصرف المركزي لا تعني الانعزال عن السياسات الاقتصادية الكلية، بل على العكس فإن قوة استقلاليته وفاعلية قراراته تتناسب ودرجة التنسيق والتشاور مع السلطة التنفيذية، وبالتحديد مع وزارة المالية.
ــ على الرغم من فترات الازدهار (المزعوم) التي مر بها الاقتصاد السوري خلال السنوات الأخيرة، بقي حجم الاحتياطي النقدي على ما هو عليه، ولم يتمكن المصرف المركزي من زيادته أو من اتخاذ تدابير احترازية تعيد النظر بهيكلية الاحتياطي. بمعنى أن التعويل كان دائماً بالاعتماد على ما يتوافر من احتياطي أجنبي يفوق ما هو مقرر في معايير بازل (تغطية عدة أشهر مستوردات)، علماً أنه ليس الهدف من الاحتياطي تمويل المستوردات فقط، بل تغطية الالتزامات الدولية المترتبة على الدولة أيضاً، فضلاً عن المخاطر المتوقعة في ظروف طارئة كظرف سوريا. فإذا علمنا أن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الذي دخل سوريا خلال الفترة 2005 ــ 2010 قارب 7.9 مليارات دولار، وخلال ذات الفترة خرج من سوريا 7.85 مليارات أرباحاً موزعة (حسب آخر نشرة ربعية صادرة عن المصرف المركزي عام 2010)، ومن المعلوم أن أغلب الاستثمار المباشر توجه نحو القطاعات السياحية والعقارات وقطاعات خدمية أخرى (شركات التأمين والمصارف والشركات المشغلة للبنى التحتية/الموانئ)، ومن المعلوم أيضاً أن طبيعة هذه الاستثمارات تحقق أرباحاً خيالية خلال فترات قصيرة جداً، وبما أن المرسوم التشريعي رقم /8/ لعام 2007 المتعلق بتحفيز الاستثمار، سمح بخروج رأس المال الأجنبي وأرباحه وفوائده سنوياً. وبما أن هذه القطاعات حساسة جداً لأي أزمة مهما كانت صغيرة أو قصيرة الأمد، فمن البديهي في بداية الأحداث خروج هذه الأموال الجديدة التي دخلت سوريا خلال سنوات الانفتاح مضافاً إليها أرباحها وجزء، لا بأس به، من الاستثمارات القديمة (القسم الأكبر الشركات النفطية)، مما شكل نزفاً كبيراً للقطع الأجنبي منذ بداية الأزمة، وعلى ما أعتقد أنه لغاية اليوم يسمح المصرف المركزي بخروج أرباح المصارف وشركات التأمين وشركات الاتصالات خارج سوريا (الشركات التي لا تزال تعمل داخل أراضي الجمهورية العربية السورية، والتي رأسمالها الرئيس هو أجنبي وليس محلياً)، وهي تشكل طلباً هائلاً على القطع الأجنبي خارج القنوات الرسمية ولا تقارن مع العشرة آلاف دولار أو الخمسة آلاف اليورو، والتي يتم تلبيتها ضمن القنوات الرسمية؛ ما أود قوله هنا، أن حجم هذه الأموال يفوق حجم الاحتياطي الذي بقي شبه ثابت لسنوات طويلة، لذا يجب إعادة النظر بهيكلية الاحتياطي وأن يكون منسجماً مع الالتزامات المالية المترتبة على الحكومة السورية، أي بما ينسجم مع حجم المستوردات وتدفقات رأس المال (بمعنى أن يتناسب مع الجانب المدين من الحساب الجاري ومع الجانب الدائن من الحساب الرأسمالي).
ــ إن السماح لشركات الصرافة بلعب دور الوسيط بين المصرف المركزي والمستوردين، خطأ فادح لا يمكن السماح أو التهاون به، لأن السلعة الوحيدة التي تتعامل معها هذه الشركات هي القطع الأجنبي والليرة السورية. إذاً مهمتها الوحيدة هي تمويل عمليات نقدية، وبالتالي من المتوقع أن تعمل هذه الشركات على المضاربة على الليرة السورية على حساب تمويل حاجات القطر من المستوردات، لذا يجب العمل فوراً على إلغاء دور شركات الصرافة في تمويل العمليات التجارية التي ليست ضمن نطاق اختصاصها، والتوقف الفوري عن عمليات المزاد على القطع الأجنبي، من اسمها (مزاد) يعني أن من يدفع أكثر يرسو عليه المزاد، أي من يخفض قيمة العملة السورية له الصفقة (المزاد)، لذا يجب إعادة الدور المركزي للمصارف العاملة، سواء العامة أو الخاصة، للقيام بهذه المهمة، مع التنسيق مع وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية والدوائر الجمركية للتأكد والمطابقة بين مبيعات المزاد بهدف تمويل مستوردات القطاع الخاص، وبين إجازات الاستيراد الممولة فعلياً من أموال المزاد.
ــ هناك إشكالية أخرى وهي عدم تطابق تكاليف الاستيراد الواردة في وثائق الاستيراد والتكاليف الفعلية، خاصة إذا علمنا أن حجم المستوردات وفقاً للإحصائيات السورية لا يتطابق إطلاقاً مع حجم الصادرات المقيدة لدى الدول المصدرة لسورية (على سبيل المثال حجم المستوردات السورية من دولة (X) يبلغ 1 مليار دولار وفقاً للإحصاءات الرسمية السورية، بينما حجم صادرات الدولة (X) إلى سوريا هو 2 مليار دولار وفقاً لإحصاءاتها الرسمية، أي أن أكثر من مليار دولار يخرج من القطاع المصرفي الرسمي)، وبالتالي هناك استنزاف هائل للقطع الأجنبي يحصل خارج الإطار الرسمي، وبالمقابل يفقد الخزينة العامة للدولة الرسوم الجمركية التي هي من حق المواطن السوري.

مقترحات في ظروف استثنائية

من هنا ينبغي القول، أنه في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة ينبغي اتخاذ قرارات استثنائية، وإن كانت غير اعتيادية، أو غير محبذة في فترة من الفترات، وأن يحصل ذلك من خلال السلطة التنفيذية ووزارة المالية، وليس من خلال الباب الخلفي عن طريق المصرف المركزي، فالسياسة النقدية ليست بديلاً للسياستين المالية والاقتصادية، وليس من السهل التخفيف من معدلات التضخم والحد من تدهور سعر صرف الليرة السورية في ظل فقدان الثقة بالمصرف المركزي وتزعزع صدقيته في قدرته على ضبط استقرار الأسعار، وفي هذا الإطار يمكن للمسؤولين الاقتصاديين والمسؤولين عن تنفيذ السياسة النقدية، النظر في المقترحات التالية:
1ــ تشديد الرقابة على عمل شركات الصرافة والمضاربين، وإيقاف عمل شركات الصرافة في تمويل النشاط التجاري وتسليم مهمتها للقطاع المصرفي المتمثل بالمصارف العاملة المرخصة على أراضي الجمهورية العربية السورية سواء خاصة أو عامة.
2ــ إلغاء فلسفة السياسة النقدية في اعتمادها مزاد العملة الأجنبية حلاً للحد من ارتفاع سعر الصرف، خاصة إذا علمنا أن حجم القطع الأجنبي الذي يضخ في السوق يشكل نسبة ضئيلة من حاجة الاقتصاد للقطع الأجنبي في الوضع الراهن، وأن حجم الإصدار النقدي لتمويل الإنفاق الحكومي العام أكبر بكثير من مبيعات المزاد للعملة الأجنبية، فضلاً عن أن المزاد يُسهل تهريب العملة الأجنبية، بالتالي فهي سياسة عديمة الجدوى.
3ــ فرض رسم تحويل على عمليات شراء القطع الأجنبي لأسباب غير تجارية (الادخار والمضاربة)، وعلى عمليات التحويل الخارجي (باستثناء حوالات الطبابة والدراسة)، من أجل الترشيد في استخدام القطع الأجنبي وعقلنة استعماله، وفرض قيود على حركة رؤوس الأموال والقطع الأجنبي.
4ــ إلغاء استقلالية المصرف المركزي (موقتاً) وإعادة تسليم هذه المهمة للحكومة والسلطات التنفيذية، لأنه بعد تدهور القطاع الإنتاجي إلى مستويات عالية جداً، والتضخم المستعر، ومع انعدام الشفافية حول وضع الاحتياطي الأجنبي، وفي ظل مؤسسات مرهقة من الأزمة، لا يمكن للمصرف المركزي مهما استخدم من أدوات نقدية أن يعالج أو يخفف ما يحصل وحده.
5ــ إعادة ربط العملة السورية بسلة عملات الدول التي نتعامل معها حالياً، حتى يتم ضبط تغيرات سعر الصرف بما يتناسب مع تغير سعر صرف هذه العملات مقابل الدولار، وبالتالي يمكن التخفيف من حدة آثار تقلبات سعر الصرف إلى أدنى الحدود، وبذلك نستطيع تحييد سعر الصرف عن التضخم قدر الإمكان، وهنا يأتي دور وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لضبط الأسعار الداخلية.
إذن عملية ضبط التضخم والحفاظ على قيمة الليرة السورية يجب أن تكون من أولويات السياستين المالية والتجارية متمثلة بوزارات المالية ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية ووزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، ومن ثم يأتي دور السياسة النقدية من أجل تدعيم هذه الإجراءات المالية والتجارية وليس العكس.
وأخيراً، فإن من الضروري، عند صياغة أي قرار أو اتخاذ أي إجراء، العمل على تحفيز ثقة المواطن السوري بالليرة السورية وبالسياسات النقدية، ودراسة وتحديد العوامل النفسية غير العقلانية التي تكمن وراء المضاربات والتخلي عن الليرة السورية، وذلك لما له من تأثير كبير على توجيه سلوكيات ودوافع الأفراد ورجال الأعمال والمضاربين نحو الهدف المرغوب تحقيقه، إذ يشكل البعد النفسي عاملاً أساسياً في المعاملات الاقتصادية عموماً والمالية والنقدية خصوصاً.
* أكاديمية اقتصادية، وعضو مجلس إدارة جمعية العلوم الاقتصادية في سوريا