دمشق | لم يكن هناك شيء يوحي، كما في باقي المناطق السورية، بأن شيئاً ما على وشك الحدوث في هذه البلدة التي تأسست في العهد الروماني، ويعتبرها بعض سكانها «توازي العاصمة دمشق في القدم».برزة التي تعتبر أكثر مناطق دمشق كثافة سكانية، بالمقارنة مع الأحياء النظامية والعشوائية التي بنيت مؤخراً، تتبع لها عدة أحياء منها مساكن برزة، وحي تشرين، وعش الورور ومسبقة الصنع، ويتصف أهلها بعصبية خاصة ككل سكان المناطق «القديمة».

للمدينة تاريخ مع «الشغب»، وتركة يصفها البعض بـ«الإخونجية». وكان لها حصتها في أزمة الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تقول الروايات إن «برزاويين من الإخوان المسلمين» هاجموا نساء من طائفة أخرى على أحد الأفران المحلية، ومزقوا ثيابهن. لم يبقَ أهالي النساء صامتين. والرد كان قاسياً وتلونت أيام برزة بالدم. انتهت أحداث الثمانينيات. صمتت برزة حيناً لتعود بعدها الحياة طبيعية. وتدمج كغيرها في دورة الحياة السورية، وتصبح ملجأ بعض القادمين إلى المدينة لانخفاض أسعار الإيجارات فيها نسبياً عن مناطق أخرى قريبة.
في بدايات 2011، تشابكت عوامل الحراك في برزة ما بين الاقتصادي، والاجتماعي، والديني، في حين بقيت الحقيقة رهن الروايات الشخصية أكثر منها حقائق ووثائق. روايات الأهالي لما حدث بالفعل، تختلف عن الوثائق الرسمية، كما تختلف عن روايات «شهود العيان» من الطرفين.
يتفاخر أبو بلال، الثمانيني، بأن للبرزاويين ثأراً قديماً مع الدولة يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي عند اندلاع أحداث حماه، «وقتها حدثت تحركات في برزة نصرة لإخواننا في حماه، وتم التعامل معها من قبل حكومة البعث بشدة. سجن من سجن وقتل من قتل ليهرب من هرب»، مبرراً غياب الوثائق بالقول إنّه «لم يكن هناك من يصور أو ينقل الأحداث لكن ذاكرتنا مازالت فتية».
وفي مؤشر على تداخل الديني بالاقتصادي في الحراك «البرزاوي»، يكشف أبو بلال أن الدولة «استملكت أراضي بمساحات كبيرة كانت أراضي زراعية يعمل فيها الأهالي، وأقامت عليها مستشفى تشرين، وجزءاً من ضاحية الأسد، ومبنى البحوث العلمية، وأبنية مسبقة الصنع والمساكن الشعبية (عش الورور)». ويضيف «هذه القصص نقلها الآباء للأبناء... فالتعويض الحكومي كان تافهاً جداً أقرب للعدم، وولّد نقمة لدى البرزاويين. الشاب يرى أرضه وأرض أهله استملكت وحرم من عمله الزراعي ليصارع الدنيا بحثاً عن عمل بعدما كان ابن ملّاك. ومما يزيد النقمة أن الأراضي المقابلة أصبحت ضمن التنظيم العمراني وسعرها أضحى بملايين الليرات السورية».
الأحداث التي اندلعت أوائل عام 2011 ألقت بظلالها، حسب أبو بلال، على البلدة، وفتحت الجرح القديم ليقوم الشباب بـ«ثورتهم»، التي يرى أنها باتت الآن «تحمل مفاهيم وأفكاراً أكبر ربما مما كان ينتظر منه، فـ«أبو محيي الدين شعبان حيبا» أحد «قادة الثورة السورية الكبار»، على حد تعبيره، «لا يشبه من أعلنوا الإمارة الإسلامية مؤخراً» في الـ«ضيعة» كما يحب أن يسميها.

برزة تدخل «الحراك»

بعد اندلاع الصدامات في درعا بأسابيع بدأ الحراك الذي يصر البرزاويون، ككل أهل المناطق التي شهدت أعمال عنف، على أنه كان سلمياً.
أولى التظاهرات كانت يوم جمعة، أواخر شهر آذار في ما يطلق عليه «برزة البلد». عدد المتظاهرين بلغ حوالى 200 متظاهر، تجمعوا خلف مسجد السلام، واتجهوا نحو ساحة البلدية. هتفوا لدرعا ولأرواح من سقطوا فيها. بدورها، قوات حفظ النظام أقامت حاجزاً بشرياً لضمان عدم الاقتراب أكثر نحو الشارع العام.
تتالت التظاهرات وتصاعدت الأحداث، ووسط الحراك «السلمي»، جرى الاعتداء على شرطيي مرور وأحرقت سياره نقل عام، كانت متجهة إلى منطقه التل.
في كل جمعة كانت تقسم البلدة إلى نصفين، قوات الأمن ومجموعات تهتف بحياة الرئيس خارج ساحة البلدية، والمتظاهرون يهتفون لثورتهم داخل الساحة.
في بادئ الأمر كانت الحجارة سلاح الطرفين. المتظاهرون يقذفونها تجاه القوات الأمنية ليرد عناصر الأمن التحية بأكثر منها، إلى أن جاء يوم جمعة، نهاية شهر نيسان، اتخذ الوضع بعدها منحىً انتهت معه سلمية حراك برزة.
ومرة أخرى، يصر أهل الحراك البرزاوي على سلمية تظاهراتهم، وأن الرصاص الأول أطلقه رجال الأمن، لكن لمهند ــ أحد سكان المنطقة ــ شهادة أخرى.
يروي مهند: «كعادتي كل جمعة أتابع من شرفة المنزل مجريات اليوم، لكن هذه المرة كان الرصاص سيد الموقف. رأيت عناصر الأمن يركضون ليختبئوا خلف حاويات القمامة التي قطع المتظاهرون الطريق بها. كان عددهم حوالى 9 عناصر. ربع ساعة مضت لتأتي مساندة من قوات الشرطة وبدأ تبادل إطلاق النار».
في الفترة ذاتها، كان إيقاع التحركات في مناطق سورية عدة قد بدأ بالتصاعد، رصاص برزة لم يكن الوحيد. أطلق مثله في درعا ودوما، وبعد أيام في بانياس، حيث استهدف باص نقل «مبيت» للجيش في كمين راح ضحيته عدد من الشهداء.
وكان «رصاص الكلام» آخذاً بالتصاعد أيضاً، حيث بدأت صفحات «التنسيقيات» على موقع «فايسبوك» بضخ «الهتافات» التي تربط المناطق بعضها ببعض في محاولة لرسم خارطة أوسع للحدث.
يضيف مهند، «منذ ذلك اليوم أضحى صوت الرصاص يتناغم مع هتاف المتظاهرين، ولم يعد الأمر مقتصراً على أيام الجمعة، بل أصبح إطلاق النار بشكل شبه يومي وإحراق الدواليب ومهاجمة بعض وسائط النقل من مفردات الحراك... كانت المعادلة، الداخل للمتظاهرين ومحيط البلدة لرجال الأمن». ومع تعذّر تكرار سيناريو «الساحات الكبرى» في برزة، لجأ المتظاهرون إلى إحدى ساحات بلدتهم الصغيرة، وأطلقوا عليها اسم «ساحه الحرية»، وباتت ملقاهم شبه اليومي.
لا يخفي أمجد، أحد الذين شاركوا في التظاهرات الأولى، غبطته وهو يشتم الدولة ويطالب بإسقاط نظام، كان يذكر رأس هرمه بصوت منخفض سابقاً ولا تفصله سوى أمتار عن قوات حفظ النظام، نافياً أن يكون «قبض» مالاً لقاء تظاهرة لكنه «امتنع عن المشاركة بعدما اتخذت التظاهرات طابعاً مسلحاً».

سلاح وزعامات

توالت تظاهرات برزة، وبدأ السلاح يظهر علناً مع رجال الحيّ تحت مسمى «حماية المتظاهرين»، في حين يرى البعض أن الحراك شكّل أرضية خصبة لرجال اعتادوا التزعم لكن بأشكال مختلفة. أغلب زعامات التمرد البرزاوي المسلح يفقتد التحصيل العلمي، وقلة منهم ربما أنهوا التعليم الأساسي.
مثالاً على ذلك، فهد المغربي، (42 عاماً)، شاب أسمر قوي البنية، عمل قبل الأزمة في أعمال مخالفة للقانون، قاد عدداً من التظاهرات ليصبح بعدها رمزاً للصدامات مع القوات الحكومية.
في الفترة ذاتها، «زعيم» محلي آخر ظهر على السطح. تمام الصعب (47 عام) أطلق على نفسه لقب «خال الثورة»، وبدأ بالهجوم على قوات حفظ النظام ما أدى إلى إصابة عدد منهم.
بحلول نهاية شهر أيار من العام 2012 قتلت طفلة أثناء التظاهرات لتعم الحي فوضى عارمة بعدها، وظهور مسلح كثيف. واندلعت اشتباكات عنيفة مع قوات الجيش السوري المتواجدة عند مداخل البلدة.
من منزل مستأجر في إحدى ضواحي العاصمة، يشرح أبو مضر ما حصل معه، «هجرت منزلي منذ عام تقريباً بعدما تسلح رجال الحي»، مؤكداً أن «الحكومة لم تتدخل وقتها وأصبحت البلدة كأنها مدينة منفصلة ضمن العاصمة»، مضيفاً «وجودنا لم يكن محبباً لدى المتظاهرين فنحن محسوبون على الدولة شئنا أم أبينا».
ويضيف أبو مضر «في الشهر السابع من العام الفائت عزلت البلدة عن محيطها، وبدأت مظاهر التشدد الإسلامي تظهر. رجال بذقون طويلة وشوارب حليقة سمعنا أنهم أعلنوها إمارة اسلامية... بعدها دخل الجيش السوري واندلعت اشتباكات عنيفة وسقط عدد من قياديي التمرد منهم «خال الثورة»، وفهد المغربي ومنشدها تمام الصعب وآخرون».
ومع تأزم الوضع في البلدة، تدخل وجهاء الحيّ للمصالحة (الشيخ محروس الرفاعي)، متعهدين بوقف المظاهر المسلحة، وبالفعل خرج الجيش السوري وبقيت الأمور حوالى 140 يوماً هادئة في برزة.

الأنفاق والهاون... والخطف المتبادل

يشكك كثيرون في حقيقة «الهدنات» التي عقدها وجهاء المناطق في أكثر من مكان. رفضها بعض المتابعين، معتبرين أنها كانت محاولات «لشراء الوقت» من قبل قادة التمرد، في حين أيدها البعض، واعتبر القبول بها تأكيداً على «حسن النية» من قبل السلطات وعدم رغبتها بتصعيد الأوضاع. مهما يكن من أمر، كان لهدوء الرصاص في برزة أسرار.
مصدر عسكري، مطلع على سير العمليات العسكرية قرب برزة، يؤكد «أن المسلحين استغلوا هدوء البلدة وقاموا بحفر الأنفاق وفتح خطوط إمداد مع منطقة القابون وحي تشرين، وإدخال جنسيات غير سورية للحي»، مضيفاً أنّ برزة «تعتبر شرياناً لإمداد المسلحين بالعتاد والذخيرة والإمدادات بشكل عام لموقعها الجغرافي واتصالها بالقابون والتل والجبال. وهي تشبه إلى حد قريب داريا، حيث قام عناصر الجيش الحر وجبهة النصرة بحفر الأنفاق وفتح الطلاقيات، مما يجعل أمر بسط السيطرة وإن كان حتمياً، ليس بالأمر اليسير».
خرق المسلحون في برزة تلك «الهدنة» المبطنة، ووجهوا نارهم صوب أهالي عش الورور «المحسوبين على الدولة»، في محاولة لأخذ ثأر قديم، فرزح أهالي العش تحت نار الهاون البرزاوي، فيما نصبت القناصة على الطرقات المؤدية للعش. عدد من الضحايا سقط جراء القذائف ورصاص القناصة.
على الجانب الآخر، يرى أسعد، أحد أهالي عش الورور، أن «الدولة لم تأخذ معاناتهم على محمل الجد»، موضحاً «كنا مغيبين إعلامياً وبعدما ازدادت عمليات الخطف بدأنا نقوم بعمليات خطف مضاد لنحرر مخطوفينا من برزة».
ليس بالسيناربو الغريب. في تلك المرحلة كان «تكتيك» الخطف قد تم اعتماده من قبل التمرد المسلح في البلاد في أكثر من منطقة. برّرها ناشطو المعارضة بأن ما يحدث معركة وكل شيء فيها مباح، فيما اعتبرها البعض «حقاً شرعياً» للمجاهدين لكون المخطوفين ليسوا سوى «غنائم حرب». ومع تصاعد عمليات الخطف، برزت تجارة «الفدية» على يد «وجاهات» محلية لم يعرف عنها سوى أرقام هواتف جوالة تستخدم لمرة واحدة ثم تختفي.
أموال كثيرة دفعت، عاد بعض المخطوفين بعد دفع الفدية، فيما كان البعض ضحية احتيال، ومفقودوهم ما زالوا مفقودين، بينما نجحت عدة عمليات «تبادل» للمخطوفين.
لم تمض «هدنة» برزة بهدوء. فقد شهدت المنطقة حادثتين تركتا أثراً كبيراً في المجتمع الدمشقي، أولاهما قيام مسلحي البلدة باختطاف الفنان محمد رافع وقتله، لترمى جثته بعد أيام في بساتين برزة. والثانية كانت الاعتداء على باص ركاب مدني وقتل من فيه بعد احتجازهم للجثث، بينها الطفل محمد عياش الذي سميت عملية الجيش السوري لاحقاً باسمه.



بداية العمليات

دخل الجيش السوري المدينة في أوائل نيسان الماضي بعد اشتباكات عنيفة مع مقاتلي «جبهة النصرة» و«الجيش السوري الحر» الذين تحصنوا جيداً في المدينة، ما جعل المعركة قاسية بين الطرفين، تدخل على اثرها سلاح الطيران لحسم المعركة بعد حصار المدينة لـ 48 ساعة لم تنفع في اقناع المسلحين بالاستسلام.
بعد القصف دخلت قوات النخبة في الجيش السوري المدينة لتستمر المعارك اياماً نتج منها بسط الجيش سيطرته على مركزين استراتيجيين (ضهر تلمسطاح والانشاءات العسكرية)، بينما يوضح مصدر عسكري ميداني أن «خطتنا هي التطويق وخنق الإمدادات... تحرير برزة البلد أمر واقع والوقت يستثمر للتخفيف من الخسائر البشرية». ويختم بالقول «بعد برزة ستتساقط عدة مواقع للمسلحين في محيط دمشق كأحجار الدومينو لكنها ليست بنزهة».