لم تكن المطالب السياسية وحدها ــ وإن جعلتها الظروف تبدو كذلك ــ ما دفع السوريين إلى النزول إلى الشوارع، في مشهد كان في عرف الكثيرين أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة. فهناك مطالب أخرى عبرت عنها فئات الشعب المختلفة، تتمحور أساساً حول السياسات الاقتصادية للبلاد، التي سببت أضراراً بالغة للقطاعات الرئيسية المنتجة.
أما تداعياتها الاجتماعية، فقد أدت خلال العقد المنصرم إلى ازدياد معاناة الفئات الفقيرة والمتوسطة، في الوقت الذي برزت فيه فئات طفيلية جديدة، ثرية وقادرة، ساهمت بقدراتها ونفوذها مع مهندسي الاقتصاد السابقين في إعادة هيكلة الاقتصاد السوري وفق اقتصاد السوق الحر، والسير نحو إقامة نظام رأسمالي طفيلي، منسجم مع توجهات الليبرالية الاقتصادية الجديدة وبرامجها. فعندما تتراجع حصة الزراعة التي تعد النشاط الرئيسي للسكان من 26% عام 2002، إلى نحو 14% عام 2011، وتراوح حصة الصناعة التحويلية بين 9 و11% بين عامي 2003 و2010، وتصل نسبة الفقراء في البلاد إلى 41% من عدد السكان.. وحين تحدد الخطة الخمسية العاشرة هدفها بخلق 625 ألف فرصة عمل جديدة للنصف الأول من عمر الخطة، لكنها توفر 277 ألف فرصة فقط، وحين تحاصر صناعتنا الوطنية في عقر دارها، وحين تشعر الطبقة العاملة وصغار المزارعين وجمهور الحرفيين والمتقاعدين بأنّ أجورهم ومداخيلهم تتقزم أمام موجات غلاء متتالية نتيجة لانسحاب الدولة من دورها في التأثير على الأسواق، وترك الأمور لآليات السوق، وأسياد الأسواق. فإن الحصاد المتوقع سيكون مزيداً من الغضب الشعبي(1).
لقد قُدر لجماهيرنا الشعبية ولاقتصادنا الوطني مواجهة الأزمة المركبة التي ما زالت تعصف ببلادنا، وكذلك حزمة الضغوط والعقوبات الاقتصادية والحصار الدولي الجائر، بهيكلية اقتصادية ريعية هشة، اشتغل على تكريسها منذ بداية الألفية الجديدة مهندسو التحول الاقتصادي. أصحاب الرؤية النيوليبرالية في طواقم الحكومات المتعاقبة، يتقدمهم النائب الاقتصادي الأسبق السيد عبد الله الدردري، الذين أفتوا ــ مستغلين عدم ممانعة القيادات السياسية والحزبية ــ بسياسات اقتصادية (سحرية) اختصروا فيها هموم الاقتصاد السوري ومشكلاته المتراكمة بشرعنة السوق الحر من جميع القيود الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. فبعد سيادة آليات السوق، وتحرير التجارتين الخارجية والداخلية، وتهميش قطاعات الإنتاج الوطني الرئيسية كالصناعة والزراعة ومشاريع البنية التحتية، وتحفيز القطاعات الريعية كالعقارات والمشاريع الساحية المخصصة للنخب، والمصارف وشركات التأمين الخاصة، جاء النمو حسب الأرقام (الرسمية)، الذي بلغ متوسطه نحو 5% خلال السنوات الممتدة بين 2005 - 2010، من القطاعات الريعية. واستأثرت حزمة من رجال الأعمال الطفيليين (البازغين) على مفاتيح الاقتصاد الوطني، وابتلعوا الأخضر واليابس. وتماشياً مع طغيان قوانين السوق الحر، ومحاباة الفئات الثرية، تسللت الدولة خارج العملية الاقتصادية، وهَمشت القطاع العام الصناعي والخدمي الذي أدى دوراً رائداً خلال عقود، وكان سنداً للجماهير الشعبية، فماطلت سنوات في إصلاح هذا القطاع وتطويره، ثم أعدت الخطط لخصخصة أهم قطاعاته.
كيفية إعادة الإعمار
قد يبدو الحديث عن ملامح الاقتصاد بعد انتهاء الأزمة المركبة التي تعصف بسوريا بمثابة التكهن المحفوف بالمخاطر؛ فالأمر لا يتعلق هنا بالطريقة التي ستتبع لتفكيك هذه الأزمة فحسب، بل بطبيعة القوى السياسية الصاعدة بعد انتهائها، ومدى مطابقة مشروعها لسوريا المستقبل مع طموحات الفئات الاجتماعية المختلفة، وبتحالفات هذه القوى على الصعيدين العربي والدولي. لكن نظرة متأنية إلى العوامل المسببة للأزمة، والتي تحتل فيها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وتداعياتها على الأوضاع الاجتماعية للجماهير الشعبية في العقد الماضي موقعاً بارزاً، وكذلك ارتفاع حجم الخسائر التي لحقت بالممتلكات العامة والخاصة منذ بداية الأزمة، والتي تقدر بنحو 80 مليار دولار، تدفعنا إلى التنبيه من الوقوع في أحد الخطأين الآتيين:
1ــ اختزال الأزمة السورية بمشهدها السياسي، والتغطية على الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، ما يؤدي إلى ترك جوهر النهج الاقتصادي في المرحلة القادمة رهينة لتسويات سياسية، قد تأخذه بعيداً عن تحقيق مطالب جماهير الشعب السوري.
2ــ تبني سياسات اقتصادية انفتاحية، ريعية، نخبوية بالاستناد إلى آليات السوق الحر، ومنسجمة مع النماذج التي روجت لها المؤسسات الدولية، وخاصة برامج التثبيت الهيكلي والتكييف الاقتصادي، أو ما اصطلح على تسميته «توافق واشنطن» بهدف «تسهيل إعادة الإعمار واختصار الزمن»، ويجري التسويق لها من خلال مشروع إعادة إعمار سوريا الذي حمله السيد عبد الله الدردري باسم «الأسكوا» إلى الحكومة السورية، بهدف الحصول على المنح والقروض والمساعدات من الدول الرأسمالية والخليجية، والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، فهو السبيل الوحيد حسب زعم واضعيه لتأمين احتياجات إعادة الإعمار، وترميم ما خربته تداعيات الأزمة السورية، وما سببته من أضرار شملت قطاعات الإنتاج الرئيسية في القطاعين العام والخاص، والأملاك الخاصة بالمواطنين(2).
إن ذاكرة السوريين لم تنسَ بعد ما أدت إليه هذه السياسات الاقتصادية في العقد الماضي، وكيف استغل الخارج غضب الفئات الاجتماعية المختلفة، الناقمة على معاناتها المعيشية، لذلك نرى أن إعادة إعمار ما تهدم لن تتحقق بالاستناد إلى سياسات اقتصادية نيوليبرالية كانت السبب في تحجيم قطاعاتنا المنتجة، وإثارة غضب الجماهير الشعبية، بل تتحقق بعد توافق السوريين على نهج اقتصادي تنموي، تعددي، استناداً إلى خطة مركزية حكومية، يساهم فيها القطاع الخاص والرساميل الوطنية. ولا تهيمن عليها، تضمن التوازن بين متطلبات النمو الاقتصادي الناتج من قطاعات الإنتاج الحقيقي لا الريعي، ومتطلبات التنمية الاجتماعية، وتتوزع على مدد زمنية محددة، وتُستخدم لتنفيذ هذه الخطة الموارد المحلية الحكومية، ومساهمات القطاعات الخاصة المنتجة. كذلك يمكن الاستفادة من قروض الدول الصديقة والشقيقة، والمنح والتبرعات غير المشروطة، وسندات الخزينة المخصصة حصراً في تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، والاعتماد على الشركات والمؤسسات الحكومية، وخاصة شركات الإنشاءات العامة في تنفيذ هذه المشاريع.
خطة من 9 نقاط
ونقترح أن تتركز هذه الخطة الحكومية على الأواليات الآتية:
1 ــ إعادة تأهيل البنية التحتية وفق برنامج زمني يأخذ بالحسبان مستلزمات إعادة إقلاع قطاعات الإنتاج الرئيسية، ونعني هنا تأهيل الطرق ومشاريع الطاقة الكهربائية وسكك الحديد وغيرها.
2 ــ مساعدة القطاع الصناعي العام والخاص على إعادة بناء ما تهدم من المنشآت، وتأمين مستلزمات الإنتاج، والتوسط مع المصارف العامة والخاصة لتسهيل سياسة الإقراض.
3 ــ إعادة النظر بسياسات الانفتاح والتحرير، ولا نعني هنا العودة إلى غلق الأبواب، بل الانفتاح على الاقتصاد الإقليمي والدولي بقدر ما يحقق الفائدة لصناعتنا الوطنية وإنتاجنا الزراعي، ومراجعة الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي وقعتها الحكومة السابقة، وإلغاء ما كان منها مجحفاً وضاراً بقطاعاتنا الإنتاجية.
4 ــ وضع برنامج واضح لإصلاح القطاع العام الصناعي، والاهتمام بالمصانع الصغيرة والورشات والحرف والمشاغل، التي تشغل الجزء الأكبر من اليد العاملة في البلاد، ومساعدتها على توفير مستلزمات الإنتاج من مواد أولية وطاقة، وتسهيل حصولها على القروض المصرفية.
5 ــ ضمان الأمن الغذائي في البلاد من طريق الدعم الدائم لقطاع الزراعة، والاستمرار في تنفيذ المشاريع المائية، ومصانع السماد والعلف، وتنمية الثروة الحيوانية، ومنح التسهيلات لمشاركة القطاع الخاص في إقامة المشاريع الصناعية ــ الزراعية في المحافظات الشرقية.
6 ــ الحفاظ على ملكية الدولة وإدارتها للمرافق الحيوية والاستراتيجية، كالمرافئ والمطارات وقطاعات الكهرباء والمياه، وتحديث طاقمها الفني والإداري، وإعادة النظر ببعض التشريعات التي تفوح منها رائحة خصخصة هذه المرافق.
7 ــ دعم صناعتنا الوطنية وتحديثها، وتقديم ما يلزم من تسهيلات كي تصبح هذه الصناعة فعلاً لا قولاً قاطرة التنمية في البلاد، وحصر نشاطات الشركات الاستثمارية الكبرى بالمشاريع الأساسية ذات التكاليف الاستثمارية المرتفعة، لا في المطاعم والمنتجعات، وتوجيه القطاع المصرفي الخاص والعام نحو المساهمة في المشاريع الكبيرة الملحوظة في خطة التنمية وإطلاق القروض العامة (سندات الخزينة) لتمويل المشاريع الاستثمارية حصراً.
8 ــ إشراف الحكومة على إعادة توزيع الدخل الوطني بين الفئات الاجتماعية، عبر شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً، كالتعليم المجاني المتطور، والضمان الاجتماعي والصحي، وتنمية المناطق المتخلفة، واستهداف بؤر الفقر، وتمكين المرأة.
9 ــ مكافحة الفساد بجميع أشكاله وتجلياته، فهو يعطّل تنفيذ الخطط التنموية، ويحبط آمال الجماهير الشعبية بعملية التنمية برمتها.
أخيراً نتساءل: هل هذه المبادرات التي تقدم تحت غطاء الأمم المتحدة ذات طابع اقتصادي بحت يتعلق بإعادة إعمار البلاد؟ أم أنها محاولة لأخذ سوريا من الداخل بعدما عجزت الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة عن أخذها من الخارج؟

المراجع:
(1) راجع تقرير منتصف المدة هيئة تخطيط الدولة حول تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة 2008.
(2) راجع حديث عبد الله الدردري لمشروع الحوار السوري ــ مواقع إلكترونية.

عضو جمعية العلوم الاقتصادية في سوريا




فجوة «العبور» الأميركي


السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في سوريا في العقد الماضي لم تعبّر ــ حسب اعتقادنا ــ عن رؤية اقتصادية بحتة، بل كانت كما أثبتت الأحداث اللاحقة، فجوة حاولت الإمبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة النفاذ عبرها إلى تحقيق أغراض سياسية، وهذا ما يمكننا تلمسه من مراجعة وصايا صندوق النقد والبنك الدوليين، وخاصة ما تعلق منها بانسحاب الحكومة من الحياة الاقتصادية، ورفع الدعم الحكومي على أسعار المواد الأساسية، وتشبيك الاقتصاد السوري بحزمة من الشراكات مع الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية قبل تمكين قطاعات الإنتاج العامة والخاصة الرئيسية في البلاد، في محاولة لتقليص سيطرة الدولة على القرار الاقتصادي ثمّ السياسي.

إن خلق مناخ اقتصادي واجتماعي يؤدي إلى اتساع غضب الجماهير الكادحة في الدول المعادية للاستعمار، كان هدفاً سعت إليه الولايات المتحدة الأميركية بهدف تقويض الأنظمة السياسية في هذه الدول، واستبدالها بحكومات موالية.
ونعتقد جازمين أنّ الأضرار الناجمة عن الضغوط والعقوبات والحصار الاقتصادي الظالم، الذي فرضته قوى التحالف الدولي على الاقتصاد السوري، ما كانت لتمارس تأثيراتها البالغة على توازن الموازنة العامة للدولة، وقيمة الليرة السورية، وحجم الاحتياطي الاستراتيجي للقطع، والدين العام، والتضخم، لو أن الاقتصاد السوري كان اقتصاداً تعددياً تنموياً مستقلاً عن السياسات، والنصائح، والتبعية للرأسمالية العالمية، وموجهاً من قبل الحكومات لخدمة قطاعات الإنتاج الحقيقي، وتلبية مصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة التي تشكل الأكثرية الساحقة للشعب السوري.