القاهرة | هي لحظة طويلة في مصر تمتد من كانون الثاني 2011 وحتى حزيران 2013 حتى تبدو أنها بلا نهاية. عشرات المشاهد مرّت كان كل منها يصلح كمشهد ختامي للثورة. ابتداء من الانتفاضة الثورية، التي انهارت أمامها أجهزة قمع حسني مبارك، الى الزحف على قصر الرئاسة في كانون الأول 2012 ضد إعلان الرئيس محمد مرسي الدستوري الذي انتزع فيه سلطات ديكتاتورية، مروراً بمشهد تنحي مبارك والتظاهرات المليونية ضد حكم المجلس العسكري وانتقال السلطة إلى الرئيس المنتخب؛ وفي كل مرة كانت ترتسم ملامح المشهد الختامي، كانت تبدأ مرحلة جديدة من الثورة.
لقد ارتكز نظام مبارك، الذي انطلقت ضدّه الثورة، على ثلاثة محاور أساسية أدّت إلى انفجار الغضب الثوري في مطلع 2011. أولى هذه الركائز كانت في الاقتصاد وتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة، التي أدت إلى إفقار منظم لقطاعات واسعة من المصريين إلى جانب بروز نخبة اقتصادية مقربة من السلطة ومتمتعة بكافة الامتيازات. الركيزة الثانية تعلقت بالسياسة الخارجية وهي ارتباط السياسة المصرية بالمشاريع الأميركية والالتزام بمقتضيات الأمن الإسرائيلي وتقديم الدعم للنشاط العسكري الأميركي في المنطقة. الركيزة الثالثة كانت على الصعيد الداخلي، وتمثلت في القبضة الحديدية لنظام مبارك المتمثلة في جهاز أمني مطلق القوة وتشريعات معادية للحريات والديموقراطية.
انطلقت الثورة ضدّ الإفقار والتبعية والاستبداد وهتفت للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية، وبالفعل نجحت في إطاحة مبارك. لكن الركائز الثلاث التي قام عليها حكم مبارك وأدّت لتدهور أوضاع المصريين وثورتهم لم يجر عليها أي تغيير يذكر عقب الثورة.
لم تنطلق الثورة المصرية تحت قيادة حزب جماهيري ثوري يمتلك رؤية سياسية واجتماعية، يبدأ في تطبيقها بمجرد إزاحة نظام مبارك. الدعوة إلى الثورة التي أطلقها الشباب الغاضب واستجابت لها الجماهير جاءت كانفجار جماهيري ضخم، ورغم بروز كثير من القيادات السياسية والميدانية، إلا أنه لم تتوافر للثورة قيادة سياسية وتنظيمية موحّدة وقادرة على قيادة الجماهير في اتجاه استكمال الثورة.
كان سقوط السلطة في أيدي المجلس العسكري أمراً طبيعياً في ظل غياب قيادة سياسية ممثلة في حزب أو تنظيم أو تيار سياسي يتمتع بدعم وتأييد من جماهير الثورة. كما أن عدم تورط المؤسسة العسكرية في عداء مباشر مع جماهير الثورة جعل قبول تسلم المجلس العسكري للسلطة مؤقتاً أمراً مقبولاً.
الفترة الانتقالية التي تولاها المجلس العسكري لم تشهد تغييراً في الركائز الثلاث لحكم مبارك؛ فقد كان أول ما أطلقه المجلس الحاكم عقب تسلم السلطة هو الحفاظ على التزامات مصر الدولية والإقليمية. كما بدت الإجراءات الاقتصادية التي سار فيها العسكر لا تختلف في شيء عن سياسات مبارك الاقتصادية، خاصة مع بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ووضع الموازنة العامة للدولة. وبالنسبة للسياسة الداخلية، فقد كان من أول التشريعات التي أصدرها المجلس العسكري قانون تجريم الإضرابات والاعتصامات، والذي حاول فيه تضييق مساحة الحرية. فيما تطورت ممارسة المجلس العسكري ضد المتظاهرين إلى العنف الشديد في أحداث ماسبيرو ومجلس الوزراء وشارع محمد محمود الشهيرة. في جميع الأحوال، لم يكن ضمن مهام المجلس العسكري أو أهدافه إحراز تغييرات جوهرية في نظام مبارك، بل كان كل دوره المعلن إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية.
كان تيار الإسلام السياسي هو الأكثر حظاً للوصول إلى السلطة؛ فمن ناحية كان يمثل القوة الأكثر تنظيماً وانتشاراً. وقد مثلت التجربة التركية بقيادة حزب «التنمية والعدالة» الإسلامي المعتدل نموذجاً للتنمية جرى الترويج له بقوة من جانب الجماعة. كما أن الطابع الإسلامي لأكبر فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وقربها من جماعة الإخوان والخطاب العدائي، تاريخياً، من الجماعة تجاه واشنطن، كان يعني أن تحولاً هاماً في السياسة الدولية والإقيلمية سيحدث مع صعود الإخوان إلى السلطة. ولا شك في أن بروز رموز من نظام مبارك في صدارة المشهد، خاصة صعود أحمد شفيق في المنافسة على رئاسة الجمهورية، قد دفع قطاعات كثيرة من خارج القوى الإسلامية لدعم صعود مرسي خوفاً من عودة نظام مبارك.
لكن جميع التوقعات سقطت. مرة أخرى لم يحدث أي تغيير في الركائز الثلاث؛ فقد استمر مرسي في تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة منصتاً لشروط صندوق النقد الدولي. وعلى المستوى الخارجي أظهر روحاً عملية لا تمت بصلة للخطاب العقائدي، الذي كانت تطلقه الجماعة. فقد نجح حكم الإخوان في تأمين إسرائيل من صواريخ «حماس». كما أن العلاقات مع إسرائيل لم يتم المساس بها. واستمر التحالف مع أميركا كما هو، بل هرول الرئيس نحو الحلف القطري التركي تحت الرعاية الأميركية معلناً استعداده تقديم أي خدمات في ما يتعلق بسوريا. وعلى صعيد الديموقراطية، كشر الرئيس عن أنيابه في وجه المعارضة بالإعلان الدستوري الذي منحه صلاحيات مطلقة، كما أن قمع التظاهرات السلمية سواء عبر الأمن أو مجموعات العنف المنظمة التابعة لتيار الإسلام السياسي، أزال أي أوهام عن نوايا الرئيس الديموقراطية.
النظام الذي بناه مبارك مرتكزاً على سياسات السوق والتحالف مع أميركا والاستبداد السياسي ما زال يقاوم بشدة. في العام الثالث من الثورة، ما زالت تنشط السياسات نفسها. لا شك في أن مساحة واسعة من الحرية قد نجت الثورة في فتحها أمام الجماهير بحيث أصبحت الممارسات الاستبدادية تلقى ردودا قوية. ولكن طالما استمر النظام مرتكزاً على سياسات تفقر الجماهير وتتبع السياسة الأميركية فلا بديل أمامه سوى استخدام أدوات القمع والاستبداد لحماية تلك السياسات من الغضب الشعبي.
مع ذلك، لا يمكن إغفال أن الثورة فاجأت الجميع بأنها أكثر عمقا وانتشارا مما تبدو؛ فتبديل قناعين على وجه نظام مبارك وسياساته لم ينجح في خداع الثورة واستمرت الحركة الاجتماعية في التصاعد. ربما تكون تظاهرات «30 يونيو»، هي الموجة الثورية الأكبر منذ يناير 2011. وسواء نجحت في إطاحة نظام مرسي والإخوان أو هزته بقوة فإن معناه الأكبر أن الثورة لا تزال مستمر وأن تبديل الأقنعة على وجه نفس النظام لن يخدعها.