يعيش داوود، السوري الجنسية، في منزل على أطراف مخيم «خان الشيح» الفلسطيني الذي يبعد 22 كيلومتراً جنوبي دمشق. درس في مدارس الأونروا، وتخرج من جامعة دمشق محامياً. لكنه بدل العمل في مهنته، وجد نفسه يرعى قطيعاً من الغزلان!فجأة، وجد داوود، الشاب العشرينيّ، نفسه ناطوراً لمزرعة إلى جوار منزل! والمزرعة المذكورة تعود في الأصل إلى مسؤول سوري سابق. يجلس داوود فيتحدث بمرارة عن مآل أحواله.

فبدل أن يلبس بزّة أنيقة ويتأبط حقيبة ويدور في أروقة المحاكم، انتمى إلى سواعد المزارعين بكلّ الاحترام الذي ينبغي.
يبدو من الغرابة بمكان وجود قطيع من الغزلان في مكان لا يناسب هذا النوع من الكائنات. لكن المزرعة اشتراها تاجر شاميّ بما فيها من المسؤول، وظلّ داوود المحامي فيها ناطوراً يقرأ مزاميره على الغزلان التي تكاثرت بشدة بعد أن كانت تأتي فرادى كـ«هدايا» للمسؤول الرفيع المستوى في الحكومة السورية حتى مطلع الألفية المنصرمة.
حظي داوود بتاجر بخيل لم يرعَ ثروته من تلك الكائنات الجميلة، فكان المحامي الذي لم يتح له حتى أن يتدرّب على المحاماة يشتري من جيبه طعاماً لها، رغم أجره القليل الذي يتقاضاه، وكل ذلك ابتغاء الجمال والأبهة التي لا تضاهى، ومن أجل الأصدقاء القادمين من الأزقة إلى سماوات المتعة!!
ولداوود ملامح فلسطينية شديدة، فمن عاشر القوم سبعة وعشرين عاماً صار منهم. هكذا تسرب أصدقاؤه القادمين من أزقة المخيم إلى المزرعة ليتمتعوا بمنظر خلاب. فالفلسطينيون ــ زملاء الدراسة ــ رأوا غزالاً في حديقة للحيوانات في رحلات كانت تنظمها المدارس التي «ترعاها» منظمة «طلائع البعث»، ولم يكن للشبان الفلسطينيين أن ينظروا إلى قطيع من الغزلان يجوب أرضاً واسعة. فالفلسطيني ليس حرّاً في ما يرى، وما يراه محض مصادفات لا قرار له فيها حسبما أرادوا.
على مرأى من الغزلان عقدت حلقات للدبكة والرقص، واستفيضت مشاعر تحت عريشة العنب في أيام لا يأتي فيها أصحاب المزرعة الأغنياء لقضاء عطلتهم الأسبوعية. سريعاً استولى «الجيش الحر» على المزارع المحيطة، وسرعان ما انهالت قذائف الجيش النظامي السوري على المنطقة برمتها. هكذا أردى النظام الغزلان دون أن يكون لها ناقة أو جمل في الصراع السوري الدائر، تماماً كبعض المدنيين. وكذلك أردى الجيش الحر أرزاق النواطير بزمن قياسي، وأغلبهم أكراد أو عرب من الشمال السوري الذي يعاني الفقر والجفاف. إنها المعادلة السورية الأخلاقية التي لا يتفق أحد مع أحد على حلول لها. وبالتالي اختفت الكلمات والأقاويل من سماء المكان. كأنّ موسى لم يكلّم أحداً من على جبل الطور. كل الفتيان الذين كانوا يجتمعون على سجالات وأنخاب و«منقل» الشواء تفرقوا في مجاهل شتات فلسطيني سوريّ جديد، ولم يسبق للسوري أن دخل في شتات ما. إلا أن ذا المزامير والغزلان، عنوان للشراكة في الأسى الفلسطيني الحاصل اليوم.
ماتت الغزلان دون أدنى ذنب، ولا أحد يعرف أين حل المقام بداوود الذي توارى عن الأنظار مع أمه العجوز التي يرعاها. وبموت الغزلان طويت صفحات طويلة من الذكريات. هكذا غيّب الموت أيضاً أحد رواد المكان، منذر وحش، الذي قضى شهيداً أثناء مروره في اشتباك على طريق درعا ــ دمشق عائداً من عمله. وسافر آخرون إلى بلاد مجهولة. وظل آخرون منكفئين في المخيم الذي لا يوجد بين أزقته مسلحون، رغم تعرضه للقصف اليوميّ. هو داوود السوري ــ الفلسطيني صاحب الغزلان الشهيدة. ولا نعرف إن كان له أو لصحبه مزامير...
أقول إذاً:
في خان الشيح يقتلون الغزال. في حيّ المخيم الجنوبيّ فروسيّة في زمن المستحيل.
يمتطون الممكن ليظلوا أحياءً.
في خان الشيح يجمعون شظايا القذائف ويسخرون: «اجمع خمس شظايا واحصل على قنبلة مجاناً».
تنقطع أسلاك الكهرباء فيصلحونها.
يغلقون الشوارع كي لا تدخل السيارات المفخخة.
يصمدون آناء الليالي والنهارات.
فلسطين تناديهم، يريدونها وتريدهم، وفي كلّ فرصة يبذلون لها الأضاحي.
لم تكسر القنابل العنقودية من عزائمهم.
لكنّ (كثيرين) أنكروا صنيع المخيم الجميل.
وفلسطينيون آخرون مثلنا أنكرونا، ومن أطعمناهم طردونا، فلا تحزنوا يا أخوتي في الحاضر والماضي والمستقبل. ستأتينا معركتنا التي سنموت فيها سعداء.
ومعركتنا أن نبقى، أن نظلّ...
ألسنا خالدين؟