دمشق | انخفضت القيمة الشرائية لليرة السورية انخفاضاً ملحوظاً منذ بضعة أشهر، وذلك مقابل الدولار من جهة، ومقابل البضائع المختلفة المحلية والمستوردة من جهة أخرى. وتسارع انهيار تلك القيمة على نحو عاصف ويومي خلال الأسبوع الفائت، حتى بلغ سعر الدولار في السوق السوداء 225 ليرة سورية، وإن كان قد عاد في اليوم التالي إلى حدود 170 ليرة، لكن التاريخ يسجّل أنّ الأزمة السورية كانت قد بدأت بسعر 45 ليرة للدولار الواحد، وحتى عند هذا السعر كانت نسبة الفقر في سوريا تصل إلى 44%، حسب الافصاحات الختامية لحكومة عطري _ الدردري، التي ذكرت فيها نتائج الخطة الخمسية العاشرة.إن من الثابت في علم الاقتصاد أنّ قيمة عملة من العملات تتعلق على نحو مباشر بكمية البضائع التي يمتلكها وينتجها البلد المعني، ولما كانت الاحصاءات الأولية تشير إلى تراجع الانتاج الصناعي والزراعي إلى النصف، والبعض يقول إلى 40% مما كان عليه قبل الأزمة، فإن ذلك يعني أن الوضع الطبيعي لليرة السورية هو أن تنخفض قيمتها لتوافق نسبة انخفاض الانتاج، أي أن يصبح سعر الدولار متراوحاً بين 90 إلى 112.5 ليرة سورية. ويعتمد هذا الحساب قيمة ثابتة للدولار، فيما قيمة الدولار انخفضت عما كانت عليه قبل سنتين على نحو ملحوظ نتيجة للأزمة الرأسمالية العالمية؛ فإن أغفلنا تغير قيمة الدولار، كانت النتيجة هي أن أي ارتفاع عن السعر الأقصى 112.5 ليرة ليس إلا مضاربة، وأن الارتفاع العام لوسطي أسعار البضائع الذي يزيد عن 100% هو الآخر ناتج عن الاحتكارات والفروق بين العرض والطلب تبعاً للأوضاع الخاصة لكل منطقة في سوريا.
أما عن المكون الأول لارتفاعات الأسعار، أي الجزء المالي وسعر الصرف، فقد اتبع البنك المركزي الذي لا يخضع فعلياً لسلطة الحكومة، خلال الأزمة سياسة سماها الدفاع عن سعر الصرف. تتمثل تلك السياسة، التي يعد أديب ميّالة عرابها ومنفذها من موقعه كحاكم للمصرف المركزي، بالجري وراء أسعار السوق السوداء، وذلك عن طريق ضخّ القطع الأجنبي الاحتياطي في السوق لتعديل الارتفاعات، إضافة إلى استمرار تمويل مستوردات القطاع الخاص التي تحولت إلى مجال واسع للمضاربة عن طريق استفادة التجار الكبار من السعر التدخلي، والبيع في السوق بسعر السوق السوداء.
إن التدخل عن طريق تبديد الاحتياطي ليس جديداً في التاريخ الاقتصادي للأزمات، فهنالك تجارب النمور الآسيوية، وفي مقدمتها تجربة تايلاند التي خلال محاولتها الحفاظ على سعر الصرف، بدّدت خلال ثلاثة أشهر كامل احتياطي العملات الصعبة التي لديها، والذي كان يقدر في حينه بـ36 مليار دولار، ومن ثم انهارت عملتها وأعلنت إفلاسها. واحتياطي 36 مليار دولار هو احتياطي ضخم بكل المقاييس، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار قيمة الدولار عام 1997 أي عام انهيار النمور الآسيوية، حيث يقدر اقتصاديون أن قيمة الدولار في حينه تبلغ على الأقل ضعف قيمته حالياً (المرجع كتاب انهيار الرأسمالية - أولريش شيفر- إصدارات عالم المعرفة 2010).
وإن ما يلفت الانتباه أكثر، وما يثير الشبهات هو تلك الطريقة المنتظمة في حركة سعر الدولار، فتلك الحركة وإن بدت صاعدة دائماً بالنسبة للمتابع غير المختص، وذلك صحيح، إلا أنها تتحرك ضمن كل أسبوع على نحو محدد بين الصعود والهبوط وفقاً للطريقة التالية: يوم الخميس من كل أسبوع تقوم مجموعة من التجار الكبار وأصحاب الشركات الكبرى، وبينها «سيريتل»، بتحويل إيراداتها الأسبوعية إلى الدولار خلال عطلة السوق أي يومي الجمعة والسبت، وسرّبت مصادر خاصة لـ«الأخبار» أنّ مجموع ما يجري تحويله إلى دولار يوم الجمعة من قبل المضاربين الكبار يراوح بين 5 الى 10 ملايين دولار، الأمر الذي يؤدي إلى الارتفاعات الكبرى أسبوعياً، ويوم الجمعة والسبت تحديداً، لسعر الدولار مقابل الليرة. وبعد ذلك يقوم المصرف المركزي بضخّ ما يقابل هذا المبلغ في السوق وعلى نحو دفعات ابتداءً من يوم الإثنين حتى يوم الخميس من أجل «الدفاع عن سعر الصرف». وبحسبة بسيطة فإن الاحتياطي الذي يجري تبديده من أجل ما يسمى الدفاع عن سعر الصرف يجري جزء أساسي منه، وبالمصادفة، إلى أيدي أولئك الذين يضاربون بسعر الصرف ويحرقونه!
وتجري المعالجة التي طرحناها أعلاه باعتبار توقف دخول أي عملات صعبة إلى المصرف المركزي، فيما ما يزيد الطين بلّة هو أن تحويلات المغتربين تقدّر أسبوعياً بما لا يقل عن 25 مليون دولار، أيضاً حسب مصادر خاصة بـ«الأخبار»، وهذه التحويلات يجري تسليمها لا بالليرة السورية كما ينبغي في ظرف تآكل الاحتياطي، بل بالدولار لتعود مرة أخرى وتدور في أيدي الصيارفة لتمثل عامل مضاربة إضافياً وكبيراً. وبقي هذا الإجراء متبعاً طيلة فترة الأزمة، وأُوقف قبل أسابيع قليلة فقط.
إن مجمل السياسات النقدية للسيد أديب ميّالة، الذي سرّب عنه الإعلام الرسمي السوري، إضافة إلى مصادر اقتصادية عدة، جوابه عن سؤال حول لقمة الناس في حال استمرار سياسات المصرف المركزي، ذلك الجواب الذي قال فيه «فليأكلوا الحشيش»، مكرراً مقولة ماري أنطوانيت «دعهم يأكلون الكاتو»، لكن على نحو هزلي مرير. إن مجمل سياسات ميالة، إذا تركنا جانباً الاتهام الموجه إليه شخصياً من قبل الحكومة النمساوية بقضية تلقي رشى من البنك المركزي النمساوي حول ما وصفته بزيادة طباعة الليرة السورية بنسبة 14% عن الاتفاق الرسمي، إذا تركنا هذا الاتهام وغيره، فإن سياساته تطرح أسئلة كبرى لا عن الرؤية والنهج الليبرالي الذي يمتلكه فقط، بل أيضاً عن حجم اختراق هذا النهج لمفاصل مختلفة في جهاز الدولة السوري.
وإذا كان العديد من الاقتصاديين السوريين يطرحون بديلاً متكاملاً بما يخص مجموع ما يجري تحويله إلى دولار يوم الجمعة من قبل المضاربين الكبار يراوح بين 5 و10 ملايين دولار الأساسية فقط وعن طريق القطاع العام، إضافة إلى تجريم التعامل بالدولار ورفع العقوبات ضد المضاربين به إلى حدودها القصوى، فإن عدم تحول هذه الطروحات إلى وقائع حتى اليوم يعكس ميزان قوى محدداً داخل جهاز الدولة لمصلحة قوى الفساد الكبير، الأمر الذي لا يبشر بالخير، بل يبشر بمعارك مفتوحة على الصعيد الاقتصادي، لن يكون جندها مقسومين بين موالين ومعارضين، لكنهم سيكونون شعباً جائعاً في مواجهة حيتان مفترسة.