ريف القصير | «طريق القصير مغلق. عودوا من حيث أتيتم»، هكذا ردّ الجنود على محاولة الناس المرور على الطرق المؤدي إلى القصير على مفرق قرية الدمينة الشرقية. المحاولات العبثية للناس، قابلها الجنود برفض حازم. تساؤلات كثيرة: ما الذي يجري؟ هل من مشاكل جديدة في ما يخص القصير؟ لا إجابات. يمكنك الاستعاضة عن ذلك بتأكيد ذهابك إلى قرية الضبعة وليس إلى القصير، وقد يصدّقك الجندي ويسمح لك، حينها، بالمرور، ما يرسم تساؤلات إضافية حول سر منع المرور، إلا أنك إن تجاوزت الضبعة وتوجهت إلى القصير سيصادفك سوء الحظ أمام أي حاجز يسألك: كيف وصلتَ إلى هُنا؟ المدنيون يعودون أدراجهم، فيما تحاول العبور باتجاه قرية الضبعة. هم مدنيون خرجوا مع بداية سيطرة المعارضة المسلحة على مدينة القصير، خشية القتل بسبب الانتماء إلى طوائف الأقليات، أو اتهامهم بأنهم «عواينية» بحكم موالاتهم للنظام. إحدى النساء تقف على أحد الحواجز ترجو الضابط المسؤول السماح لها بإخراج أغراض أتت بها من منزلها في القصير. وإخراج الأغراض ممنوع، إذ إن التعليمات واضحة. يستغرب مواطنون آخرون يقفون على الحاجز التقيّد الحالي الصارم بالتعليمات، فيما تمت سرقة بيوت وحُمِّل أثاثها كاملاً من قبل أطراف مسلّحة على مرأى الحواجز العسكرية. يعلّق آخر ساخراً: «هؤلاء يضربون ضربتهم بذكاء، وينقلون مسروقاتهم لحظة تحط المعركة أوزارها عند انشغال الأطراف المتقاتلة بإسعاف جرحاهم أو تقويم خسائرهم، أو عند احتفالهم بسكرات النصر في إحدى المناطق. بينما هذه المرأة المسكينة لم تستغل الوقت». لا يقتنع المتحدث الآخر بهذا الكلام، فمن الصعب الاقتناع بمنع امرأة من إخراج ثلاث سجادات هي كل ما بقي تذكاراً من منزلها المدمر لتنجو بها إلى الغرفة التي استأجرتها في حمص، حي الأرمن، وهي الأرملة وغير الموظفة والأم لثلاثة أطفال. تبكي المرأة خشية مصادرة سجاداتها الناجية من السرقة في بيتها، فيرقّ قلب الضابط ويسمح لها بالمرور مع أغراضها على مضض. مشاعر الخارجين من القصير توحي بالكثير من الألم. رجلٌ يخبر أحد الضباط عن عثوره على أربع جثث لمسلحين داخل منزله، ما حداه إلى الخروج جزعاً مع عائلته من دون التفكير في العودة مجدداً. لا يعلّق الضابط، فما الذي يمكنه أن يفعله حيال الأمر! الكثير من هدايا الحرب سيعثر عليها أهل القصير في ما تبقى من بيوتهم لفترات طويلة. امرأة عجوز تعبت من الانتظار، فجلست على جانب الطريق، بانتظار فتحه ليسمح لها بالعودة بعدما ذاقت مرارة النزوح. العديد من عائلات القصير هربت خلال السنة الماضية على مراحل لتقطن داخل أحياء حمص من خلال استئجار بيوت في بعض الأحياء الآمنة نسبياً. عائلات رأت مدينتها المدمرة على جميع الشاشات، فشعر أفرادها بالحنين لزيارتها، وبدأت نكبات من نوع آخر بالنسبة إليهم. تجاوز الحاجز سيفضي بك إلى آثار أحداث الأيام القليلة الماضية، حيث بعض الهجمات للمسلحين أوقعت بعض الخسائر في صفوف الجيش قبل تأمين مساحات أمان لاحقاً ضمن البساتين، من بين الخسائر، استهداف شاحنة ذخيرة ضخمة. تفحمت الشاحنة، فيما نجا الجنود الذين نزلوا منها قبل فوات الأوان. الحاجز العسكري التالي باتجاه الضبعة زاخر بشتى أنواع الأسلحة والذخيرة. مصادرات هائلة من المسلحين بانتظار شحنها إلى الكلية الحربية بحمص. عربة ناقلة للجند ودبابة كانت المعارضة المسلحة قد حصلت عليهما من مطار الضبعة العسكري، استعادهما الجيش السوري سالمتين. أسلحة من كل الأنواع والأحجام وبحر من الذخيرة لكل أنواع الأسلحة، ما يثير الجدل حول سر صمود مسلحي المعارضة رغم الحصار الطويل لهم في الكثير من المناطق. قناصات عدّة بين المصادرات، وجعبات عسكرية. الجنود يبتسمون ويتبادلون التهاني. معظمهم جاء الأمر بنقله إلى منطقة القلمون ويستعد للمغادرة وتسليم المنطقة إلى فرق أُخرى في الجيش تنشر تعزيزاتها للحفاظ على أمن ريف القصير. كل الأحاديث المتناقلة توحي بأن جنود المعارك الأخيرة سيكونون أبطال أحداث المعارك اللاحقة في القلمون وريف دمشق الشمالي. ضبّاط أكفاء تمّ نقلهم إلى حلب أيضاً. تعوّد العسكريون على المنطقة، ويعزّ عليهم الخروج وتسليمها لعسكريين آخرين كي يثبّتوا وجود الجيش فيها، إلا أن الأوامر العسكرية مطاعة. «المعارك مستمرة» يقول أحد العسكريين. فقرية الحسينية لا تزال تغص بالمسلحين. بساتين كثيرة تشهد حالات تسلل. يقدّر أحد الجنود عدد المسلحين في البساتين المجاورة بـ 1500 مسلّح ببنادق فقط، حيث يرصد الجيش حجم السلاح والتعزيزات لدى مقاتلي المعارضة بدقة. «بعد خسارتهم الأخيرة والمصادرات الكثيرة، لم يعد لديهم قدرة على الصمود. إنهم يحاولون إشغالنا وتحقيق انتصارات صغيرة ومفاجئة علينا. إنما هم في البساتين يتّبعون الكرّ والفر، ولا يملكون إلا بنادقهم مع ذخيرة متواضعة». خسارات متفرقة في الأرواح تظهر بين يوم وآخر، رغم الإنجاز العسكري الشهير في القصير. أمرٌ لا يفهمه كثير من غير العسكريين، إنما لدى الضباط الأجوبة عن كل الأسئلة المتعلقة بالمنطقة التي يسيطرون عليها. «دخول القصير غير ممنوع. أيام فقط ريثما نتمكن من تمشيط البساتين حول الحسينية وداخلها، والتخلص من العبوات الناسفة المتبقية والتي تشكل خطراً على المدنيين العائدين». واللافت أن العسكريين أصبحوا يقسمون المناوبات في ما بينهم بشكل أكثر راحة. ويتبادلون الأحاديث حول صعوبة ما مرّوا به من حوادث وأحداث، كما لو كانت ذكريات مرت منذ زمن بعيد. أحد المجنّدين يعتبر أن مدينة حمص وريفها التي خدم العلم فيها سنتين ونصف هي المعركة الأصعب، متمنياً أن يتم نقله منها إلى أي مكان آخر، فقد سئم الأهوال التي لاقاها في المدينة القاسية التي لن يعود إليها عند انتهاء خدمته، حتى في زيارة.
ومن المتوقع أن تكون معركة القلمون أشرس المعارك القادمة، ولا سيّما في ظل تحصينات منيعة لدى مسلحي المعارضة داخل يبرود التي بدأ الجيش بالتغطية النارية لعملية عسكرية متوقعة فيها، فيما الأنظار تتجه إلى معركة حلب، والجدل يكثر حول ما يحضّره الجيش السوري من مفاجآت عسكرية أسوةً بما جرى في القصير مؤخراً.