وحدها الحرب تحضر دون استئذان أو موعد مسبق. وحدها تحول حياة البشر إلى رحلة قصيرة وسريعة بين توديع الأحبة قبل دفنهم تحت التراب في لحظة هدوء عابرة، أو البحث عن مكان آمن بعيداً عن رصاص وكراهية المتحاربين المتبادلة. إنها لعنة القدر الأحمق ذاتها، لا تزال تلحق بأبناء الشعب الفلسطيني وتظلل سنوات شتاتهم ولجوئهم ونكبتهم الطويلة. من أيلول الأسود، إلى حرب لبنان الأهلية، وصولاً إلى الحرب السورية اليوم. فصول لا تنتهي من نحر الفلسطيني على مذابح الحروب والمؤامرات السياسية المتجددة دوماً، عرف أصحابها كيف يحشرون القضية الفلسطينية في طياتها، وأتقنوا استثمار معاناة اللاجئين ليعطوا أنفسهم الشرعية أمام شعبهم من جهة، وأمام الرأي العام والعربي والعالمي من جهة أخرى. نكبة مضاعفة تعيشها مجمل مخيمات الشتات الفلسطيني في سوريا اليوم. القصف ورصاص القنص يطالها من جميع الجهات والمحاور. لم تخرج مظاهرات الغضب هذا العام لتجوب شوارع مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق، لإحياء ذكرى نكسة حزيران. هكذا اعتاد اللاجئون الفلسطينيون التجمع في أكبر مخيماتهم الذي يعتبر عاصمة اللجوء والشتات الفلسطيني في العالم، والسير في مظاهرة غاضبة تجوب شارعه الرئيسي، تأكيداً منهم على حقهم في العودة إلى وطنهم، ورفضهم لجميع مؤامرات ومعاهدات الاستسلام. غابت مظاهرة الغضب عن شوارع مخيم اليرموك هذا العام، بعد أن دمرت الحرب السورية أجزاء كبيرة من أحيائه وبيوته، وحولته إلى مدينة أشباح، وهجرت أهله في تغريبة فلسطينية جديدة إلى بلاد الله الواسعة. قبل عامين ودع سكان مخيم اليرموك 22 شاباً استشهدوا برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي على حدود الجولان السوري المحتل، عندما خرج الآلاف من أبناء المخيمات الفلسطينية في فيما عرف باسم «مسيرة العودة والزحف الكبير». في ذلك اليوم تحول التشييع إلى مظاهرة غضب، هتفت بإسقاط جميع الأنظمة العربية المتخاذلة والمتاجرة بدماء الشباب الفلسطيني المتحمس لقضيته وانتمائه. غصت جدران المخيم بصور الشهداء. إنها من التفاصيل التي تشكل جزءاً من هوية مخيمات اللجوء الفلسطينية أينما وجدت. صور الشهداء تلصق فوق بعضها البعض على جدران ونواصي الطرقات والحارات الفقيرة، لتشكل سماكة ورقية كبيرة. جثامين شهداء مسيرة العودة، دفنت قرب بعضها البعض في الركن اليساري قرب بوابة مقبرة الشهداء الجديدة. ربما لم يتمكن أحد من أهالي الشهداء من الوصول إلى قبور أبنائهم، ليضعوا الزهور عليها، أو يقرأوا الفاتحة على أرواحهم. لا أحد يعرف أن كانت القذائف أو رصاص القنص قد قتلت بعضاً من أهالي شهداء مسيرة العودة تلك، ليلحقوا بابنائهم بصمت مخجل ومذل، لم تعتده المخيمات لدى تشييعها لشهدائها.
قبل حوالي ستة أشهر، سقط مخيم اليرموك بيد المعارضة المسلحة، التي حولته سريعاً إلى قاعدة حربية لعملياتها، بعد أن نهبت وسرقت البيوت والمحال التجارية. منذ ذلك الوقت يعتمد الجيش السوري على سياسة «الحرب عن بعد» التي تقوم على حصار المخيم المنكوب، وقصف جميع مناطق تواجد المعارضة المسلحة والجيش الحر بقذائف الراجمات والدبابات والمدافع وحتى صواريخ الطائرات. اقتحام الجيش السوري لمخيم اليرموك ربما سترافقه مجزرة كبيرة بحق من بقي من سكانه، ستعيد إلى الذاكرة صور أحداث ومجازر حصلت بحق الشعب الفلسطيني، لا تصب بمصلحة النظام السوري في هذه المرحلة الصعبة. شوارع وأزقة المخيم التي لم تعرف الهدوء أو النوم يوماً، تحولت اليوم مدينة ميتة، يلعب فيها الموت لعبته المفضلة: حصد الأرواح، وإرسالها الى العالم الآخر برصاص القنص وطيش القذائف الطائشة بعياراتها المختلفة. مئات الشهداء من أبناء المخيم، دفنوا بصمت في الأشهر القليلة الماضية. لم تعلق صورهم على الجدران. لم تزف جثامينهم في أعراس ومظاهرات غضب كما جرت العادة. لا أحد يستطيع تحديد هوية القاتل ضمن أجواء السريالية والغرائبية التي تهيمن على مخيم اليرموك. رغبة جامحة في قضاء أطراف الصراع على بعضهم البعض. لا أحد يكترث بمعاناة وأحوال من بقي من سكان مخيم اليرموك في منازلهم. الجميع يحاول استثمار القتل اليومي الذي يحصد اللاجئين بدم بارد، لخدمة ما يريد تصديره من أفكار وخطابات سياسية رنانة. تحولت الحدائق العامة، وحتى حدائق البيوت الضيقة في اليرموك إلى مقابر تحفر على عجل، وتدفن فيها مئات الجثامين. نكسة جديدة تضاف إلى سلسلة النكسات الفلسطينية والعربية. النكبة ما تزال مستمرة بفصولها وأحداثها وتداعياتها على مصير اللاجئين الفلسطينيين في بلاد العرب والعالم. الأمل بعودتهم إلى وطنهم أصبح مرهوناً اليوم ببقائهم أحياء يرزقون، بعيداً عن رصاص وقذائف المتحاربين على أرض مخيمات لجوئهم الفقيرة!