ضربت الحرب السورية حياة المواطنين وأحلامهم ومستقبلهم. مئات الآلاف منهم تحولوا إلى نازحين ولاجئين في بلاد الشتات، في الوقت نفسه برزت الفوارق الطبقية الكبيرة، بين أبناء الوطن الواحد، الأغنياء دائماً في بحبوحة وأمان، بينما الطبقة المتوسطة وأصحاب الدخل المحدود في مستنقع الفقر.
قبل بداية الأزمة السورية، كانت الهوة والفوارق الطبقية بين الفقراء والأغنياء في المجتمع السوري مقبولة نوعاً ما، إذا ما قورنت مع أوضاع باقي مجتمعات الدول العربية المجاورة مثل لبنان والأردن ومصر. «فلول وبقايا» نظام الاقتصاد الاشتراكي وخططه الخمسية، لا تزال حاضرة وظاهرة بقوة في الكثير من جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، حتى بعد عامين ونيف من الحرب المستعرة. أسعار مختلف السلع والمواد الغذائية الأساسية، ارتفعت بشكل جنوني وتدريجاً مع تقدم عمر الحرب والأزمة، نتيجة فقدانها أو ندرتها في الأسواق السورية المحلية. لم تكترث الحكومة السورية بتضخم حجم الفساد، والمتاجرة بلقمة ومعاناة المواطنين، بل ضاعفت أسعار المحروقات والوقود مرات عديدة.
هذه الضربات المتلاحقة أماطت اللثام عن الفوارق الطبقية والاجتماعية بين فئات المجتمع السوري، وهذا ما يتبين اليوم مع آلاف النازحين السوريين في الأراضي اللبنانية، الحاملين معهم الصورة الحقيقية عن طبيعة الطبقة الاجتماعية التي يمثلونها بعدما أصبح إخفاؤها أو التحايل عليها أمراً مستحيلاً.
تمثّل الحدود السورية اللبنانية، المحطة الأخيرة للقاء الأغنياء مع الفقراء من آلاف النازحين السوريين، قبل أن يمضي كل في طريقه. المشهد يحمل في تفاصيله الكثير من المفارقات والقراءات الموجعة. التمييز يبدو واضحاً في تعامل حراس الحدود من كلا الجانبين. النازحون الفقراء، الذين أتاحت لهم الحرب المستعرة في بلادهم، فرصة جمع ما تيسّر من حاجياتهم الشخصية، وبعض قطع أثاث منازلهم البسيطة، ليحشروا عائلاتهم غالباً في حافلات نقل جماعية، يخضعون لتفتيش دقيق ومهين على حواجز الأمن السوري، قبل الوصول إلى نقطة الحدود اللبنانية، لتبدأ رحلة انتظار أخرى، تمتد ساعات طويلة للحصول على تأشيرة الدخول. في الوقت نفسه يعبر الأغنياء من النازحين السوريين الحدود بسياراتهم الفارهة. لا حاجة لهم بحمل متاع أو قطع أثاث، ما داموا سيقيمون في فنادق «خمسة نجوم»، أو شقق مفروشة فارهة. لا تشكل الحدود لهم أي عائق يذكر.
يروي النازح أبو مازن (49 عاماً)، عن جملة التجاوزات التي تحصل على الحدود اللبنانية، «هناك عشرات العملاء ينتشرون اليوم عند جانبي الحدود اللبنانية السورية، مهمتهم تقديم تسهيلات عديدة، مثل الإسراع في الحصول على تأشيرة الدخول، والمساعدة في عدم تفتيش محتويات السيارات أو الحاجيات الشخصية، مهما كان حجمها أو نوعها، لقاء الحصول على مبلغ مالي يختلف حسب ما يراه العميل في تعامله مع الزبون». ويضيف «رفضت دفع مبلغ 2000 ليرة سورية (حوالى13 دولاراً أميركياً) عن كل فرد من عائلتي إلى أحد العملاء، لقاء انجاز معاملة تأشيرة الدخول. أرغمت على الوقوف 14 ساعة بين حشود النازحين السوريين، بينما الأغنياء اجتازوا الحدود أمام أعيننا بسياراتهم بسرعة خيالية، لا تتجاوز وقت وقوفهم على إحدى إشارات المرور داخل الأراضي اللبنانية».
تأخذ الفوارق الطبقية أوجهاً وأشكالاً متعددة ومختلفة، أكدها وساعد على إبرازها الغلاء الكبير، والفروقات الهائلة في أسعار مختلف المواد الغذائية والأساسية في لبنان، لدى مقارنة النازح السوري لأسعار السلع نفسها التي اعتاد دفع ثمنها في بلاده.
أيضاً تضاعفت أسعار إيجارات المنازل والغرف المفروشة في بعض المناطق اللبنانية، بسبب العدد الكبير للنازحين السوريين، الذين لا يمتلكون خياراً أو حلاً بديلاً، سوى الرضوخ لاستغلال أصحاب العقارات، مما زاد حجم الأعباء المادية على عائلات سورية كثيرة، هوت بسرعة مما كان يسمى الطبقة المتوسطة أو أصحاب الدخل المحدود، إلى قاع الفقر والجوع والذل.
يقضي الموظف الحكومي والمهندس المدني، أحمد الشولي، النازح مع زوجته وأطفاله الثلاثة إلى العاصمة بيروت، أغلب نهاره اليوم باحثاً عن غرفة صغيرة للإيجار، «لم يعد بمقدوري دفع 450 دولاراً أميركياً كل شهر إيجاراً للمنزل الذي أسكنه مع عائلتي»، يقول. وعن الوضع المعيشي في لبنان، يوضح الشولي أن «الغلاء هنا لا يرحم أبداً، تحولنا إلى فقراء لا نختلف كثيراً عن المتسولين في الشوارع. سابقاً كنا نشتري المعلبات والسلع المهربة من لبنان إلى الأسواق السورية، الآن أتوسل الأصدقاء والمعارف القادمين من سوريا، إحضار ما تيسر لهم من غذاء وسلع مهما كان نوعها، كي أخفف من الأعباء المالية، بعدما شارف المال الذي كنت أدخره على النفاد».
رغم ذلك، لا يفكر الشولي بالعودة إلى بيته ووطنه مهما بلغت الصعوبات الحياتية عليه، «أحاول البحث عن عمل مهما كانت طبيعته أو عائده المالي. أنا مستعد أن أتحول إلى متسول في الطرقات، مقابل أن تبقى عائلتي بخير وبعيدة عن الموت المجاني».
على مقلب آخر، لا توفر عائلات سورية كثيرة من الطبقة المخملية، أياً من وسائل الترفيه والمجون في بيروت. طاولات محجوزة دائماً في أرقى المطاعم والملاهي البيروتية لأسماء سورية. إحدى العاملات في أحد أكبر متاجر الملابس في بيروت، أصابتها الدهشة والاستغراب لدى شراء زبونة سورية ملابس بقيمة 5 آلاف دولار أميركي. تقول «لم أصدق أن هناك نازحاً سورياً يتمكن من دفع هذا المبلغ في يوم واحد، مقابل بعض القطع من الملابس. أصبت بالصدمة حقاً لدى سماع لهجتها السورية الواضحة. ولدى سؤالها عن المكان التي قدمت منه، أخبرتني أنها نزحت قبل عام ونصف عام من دمشق، وهي تنتظر مع عائلتها الحصول على الفيزا للهجرة إلى كندا». غالبية غرف وأجنحة فنادق بيروت الراقية، محجوزة لأشهر عدة لعائلات سورية، التي حولت فترة إقامتها في لبنان محطة للسياحة والاستجمام، في انتظار قبول طلبات الهجرة التي تغص بها غالبية سفارات الدول الأجنبية، في الوقت الذي يصارع فيه أبناء جلدتهم من أجل البقاء على قيد الحياة، ليس أكثر.