كفرسوسة | أطراف بساتينه لدغت محيطه بالعنف. اليوم بقيت ذاكرته معبراً للصوت والصورة فقط. حيّ كفرسوسة الدمشقي الشاهد اليومي على الحياة القاسية في الحرب. تلعب ثنائية الفقر والثراء دوراً في تقسيم ربع مليون سوري يعيشون في الحيّ (جنوب دمشق). الأغلبية تقطن منازل بسيطة في «كفرسوسة القديمة»، وتعمل في محال تجارية تسد رمق الحيّ فقط، أما الأجزاء الفاخرة في «تنظيم كفرسوسة» فتطلّ على مجموعة من المراكز الأمنية التي شهدت أول تفجير بسيارة مفخخة في دمشق صباح الجمعة (23-12-2011).
الجزء الأكبر من السكان يتوزع ابتداءً من يسار بناء مجلس الوزراء إلى العمق حيث تزدحم البيوت البسيطة ممتدةً من بساتين كفرسوسة واللوّان حتى مشارف داريا. في الجزء الجنوبي من الداخل إلى العاصمة، كان المئات يتوافدون أثناء تشييع أحد أبناء الحي الذي مضى في المواجهات أثناء التظاهرات. هذه الأخيرة اختفت تقريباً. في حيّ كفرسوسة، اليوم، حواجز دقيقة للجيش والأمن على معظم المفارق، المنطقة متاخمة لإحدى «أسخن» المناطق في الريف، وهي داريا، وخطورته الأمنية تفرض حرص الحكومة السورية على تمشيط كفرسوسة باستمرار عبر الدوريات الأمينة، إذ قد «يتسرّب» مسلحو المعارضة من بعض الأحياء الجنوبية كـ«اللوان» أو «الجويزانية».
مثل معظم المناطق، كان الارتجال يقود مصير المنطقة وأهلها. انتعشت الطائفية، تعرّض بعض العلويين في البداية لمضايقات من قبل المتظاهرين بذريعة أنهم يتعاونون مع الأمن. واضطروا إلى الرحيل عن كفرسوسة. «في حارتنا حدث هذا الشيء ومع الوقت أصبحت الأزمة تكبر، صار العلوي مضطراً لأن يقسم اليمين أنه مع الثورة وإلا اعتبروه موالياً للنظام، وبالتالي عليه الرحيل أو التعرض للخطر»، يقول عماد، المدرس الذي كان يشجع الحراك قبل أن يغادر كفرسوسة آسفاً على ما وصلت إليه. كان الشباب صغاراً في السن، يخرجون في التظاهرات دون قيادة واضحة المعالم، لذلك كانت التجاوزات واردة على كل الصعد وارتفعت تلك التجاوزات الطائفية مع ارتفاع وتيرة الأحداث وتحولت الاتهامات إلى موضة متبادلة بين جميع الاطراف. الصبغة الدينية لا تفارق تكوين الحيّ الاجتماعي، فـ«الشاميّ الكفرسوساني» جاء من ثقافة زراعية، رأس حكمتها «الصلاة والصوم وأنّ المرأة عورة». هناك شيء من التشدد في ما يخص تلك الظواهر التي عكست بمفاهيمها الاجتماعية أثراً على نهج الحراك الشعبي كما معظم المناطق التي انتفضت: «العامل الديني كان المتحكم الأساس في ظل غياب النخب، خاصة عندما استيقظ الصراع القديم بين الاخوان المسلمين والسلطة، ثم أخذ الموضوع طابعاً طائفياً بين السنة والشيعة»، تعقب منى، الناشطة الميدانية التي كانت تتردد إلى كفرسوسة لدراسة الحياة الاجتماعية لدى المرأة إبان الأزمة.
وصل التطرف في البداية إلى نبذ كل من ليس مع التظاهر، يمكن التأكد من ذلك بمجرد مرورك في أحد شوارع الحيّ، وإذا سأل «غريب» عن منزل للإيجار، يردّ الأهالي: ما في بيوت لغربتلية.
في مناطق قريبة من الحيّ يسمع صوت إطلاق نار متقطع إلى جانب أصوات المدافع، ويروي أحمد، صاحب متجر خُضر: «لم تشهد كفرسوسة أعمالاً عسكرية، بل كانت الأحداث تتركز على أطرافها في منطقة اللوان القريبة من داريا وفي بساتين الرازي التي تصلها بالمزة الشرقية، حدثت بعض الاغتيالات المتفرقة، لكن لم تحدث عمليات كبيرة مثل باقي المناطق». لا خوف لدى الناس من جرّ المعركة إلى حيّهم، لأنهم يؤمنون بعدم جدوى العسكرة، «حالياً ما في مظاهرات، وبعد انتهاء المعارك لا يعلم أحد كيف ومتى ستنتهي... الكل يحلم أن تنتهي بس مو طالع بايدو شي»، يضيف أحمد.
المنطقة هادئة تماماً، حركة الحياة فيها لا تنتبه إلى العابرين، فالموت كان هنا عابراً، والصرخات اجتمعت عابرة، والذاكرة أيضاً توقفت عند «دوّار الجوزة» في كفرسوسة على جدران المدرسة تماماً، لم يبق حتّى أثر لـ«البخاخ» الذي اختفى مع العابرين. «الغربتلي» الذي يبحث عن مظاهر الأزمة في هذا الحيّ، سوف يجد أطفالاً يبحثون عن مكان مناسب لقضاء عطلة نهاية العام الدراسي ولعب كرة الشارع. الوجوه التي تمرنت على الرعب ستؤدي مناسك «القضاء والقدر» وتحجّ إلى عملها. هناك أناس في السجون وآخرون مضوا ومثلهم هاجروا، لكن التحفظ على الأسماء والعناوين في الوجدان أكثر أهمية بالنسبة لهؤلاء السكان من ذكرهم أمام «غربتلي».