يوم الخميس الماضي، أقامت السفارة العراقية في عمان حفلا لمناسبة يوم «المقابر الجماعية» في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، في إحدى القاعات العامة. وأثناء انعقاد الحفل، حضر نشطاء أردنيون من البعث العراقي، وبدأوا بالهتاف ضد حكومة نوري المالكي، والتهليل للرئيس الراحل. وقد تعامل حرس السفارة مع أولئك النشطاء، بقسوة، وأخرجوهم من القاعة عنوة، في مشهد تم تصويره وبثّه، مما أثار حالة من السُّعار المعادي لبغداد لدى أوساط البعثيين وأنصارهم، منتقلين، فجأة، من الكمون إلى النشاط الساخن، وتنظيم أشكال مختلفة من الاحتجاجات منها اعتصامات أمام مقر السفارة العراقية. وواكبت الإذاعات الصباحية الواسعة الانتشار والمواقع الالكترونية تلك الاحتجاجات بالتحريض والتجييش، وتعالت المطالبات بطرد السفير العراقي وحتى إهدار دمه.ابتداء، ينبغي التأكيد أن السفارة أخطأت مرتين، مرة بتنظيم حفل معاد لصدّام الذي ما يزال يحظى بشعبية في البلاد، ومرة بالتعامل العنيف مع النشطاء البعثيين، بدلا من استدعاء الشرطة للجمهم واخراجهم من الحفل. لكن ذلك لا يمنع من طرح الأسئلة التالية، وهي: ما الذي دفع بالنشطاء البعثيين إلى حضور حفل لما يعتبرونه سفارة المالكي، والعمل على تخريبه، واستفزاز العراقيين بالشعارات العدائية والشتائم؟ ثم مَن هي الجهة التي نفخت في الحادث وحوّلته إلى قضية كرامة وطنية؟ حجم التحريض وجنونه المنفلت، يدلّ على أن الحكاية كلها مفبركة ومحضرة مسبقا.
أمس الثلاثاء، شهدت البلاد مهرجانا للجنون، يكشف، مع شديد الأسف، قدرة الأموال والأجهزة على نشر الهوس في صفوف مجاميع بشرية، باتجاه أهداف مرسومة في دوائر الظلام. وفي رأيي أن هذه الأهداف ثلاثة هي: (1) تحويل الأنظار عن انعقاد مؤتمر «أصدقاء إسرائيل» في الأردن اليوم الأربعاء. وهو حدث استقطب معارضة سياسية وشعبية متسعة وحادة. وربما على نطاق أوسع، الفتّ في عضد الحركة المتضامنة مع سوريا ومحاصرتها، في سياق التحضير لحرب محتملة مع سوريا، (2) توسيع نطاق الحرب الإعلامية والسياسية والإرهابية ـــ التي تشنها السعودية وقطر وتركيا، داخل العراق، ضد حكومة المالكي ـــ لتشمل الأردن أيضاً. والأردن، كما هو معروف، ساحة عراقية بعامة، وظهير جغرافي واجتماعي وسياسي لغربي العراق، حيث تتركز المعارضة الشعبية والطائفية، للحكومة العراقية، (3) تخريب ما تم انجازه من تطورات إيجابية في العلاقات الأردنية ـــ العراقية، ومنع تعزيزها بما يحرر عمّان من التبعية المالية، وبالتالي السياسية للغرب والخليج. لقد عاد العراق، ليحتل مرتبة الشريك الاقتصادي الإقليمي الأول مع الأردن، كذلك، فإن بغداد وعمان وقعتا، بالفعل، اتفاقية لإنشاء أنبوب نفط البصرة ـــ العقبة. وهي تُعدّ، بالنسبة للعراق، عنوان تنويع منافذ صادراته النفطية، كما تُعدّ، بالنسبة للأردن، مفصلا اقتصاديا تاريخيا يحل للبلد أعقد مشكلتين يواجههما، أي فاتورة الطاقة والعجز المالي، إذ تحصل عمان، بموجب اتفاقية أنبوب البصرة ـــ العقبة، على احتياجاتها النفطية بأسعار تفضيلية، وعلى عائدات مرور تقدر بحوالي ثلاثة مليارات دولار سنويا. وهو ما يعني، سياسيا، تملّك الأرضية الاقتصادية لمقاومة المشروع الصهيوني للكونفدرالية والوطن البديل.
هكذا يكون، في تخريب العلاقات الأردنية ـــ العراقية، مصلحة مشتركة للعديد من الأطراف الخارجية والداخلية، ابتداء من واشنطن وتل أبيب، ومرورا بالسعودية وقطر، وليس انتهاء بالإخوان المسلمين والسلفيين والأوساط المرتبطة بالولايات المتحدة والخليج.
عندما سقط النظام الملكي العراقي 1958، كانت هناك سورة غضب، معروفة الأسباب، في عمان؛ حينها نهض الزعيم الأردني وصفي التل، وخاض معركة سياسية عنوانها: فلنطو صفحة الماضي، ولنذهبْ إلى المستقبل، فلا غنى للأردن عن عمقه العراقي؛ ووقتها استطاع التل أن يفرض رؤيته. وشيئا فشيئا، استعاد البلدان علاقاتهما التي ظلت خيارا استراتيجيا أردنيا من العهد الملكي إلى العهد الجمهوري إلى العهد القومي إلى العهد البعثي، ثم صعدت، في مرحلة الراحل صدام حسين، إلى الذروة، قبل أن يقطعها الاحتلال الأميركي في العام 2003.
زال الاحتلال، العام 2011 فالتفتت بغداد إلى الأردن بوصفه نافذة العراق، وضاقت الدنيا بعمان، فالتفتت إلى العراق، بوصفه الحليف القديم القادر والموثوق، وبدأت العلاقات الثنائية، تُسارع الخطى في الاتجاه المطلوب. وها، فجأة، تملأ الغيوم السود، سماء تلك العلاقات، استوعبتها بغداد بتقديم اعتذار دبلوماسي. لكن، إذا كان من المفهوم أن يسعى التحالف الأميركي ـــ الخليجي، وأدواته المحلية، إلى تلغيم الطريق بين عمان وبغداد، ومنع الأردن من الاقتراب من محور المقاومة، فإن استعداد البعثيين الأردنيين (الجناح العراقي) للعب دور محراك الشرّ، يطرح أسئلة جدية عن المصير المؤسف لحزب قومي تحوّل أداة خليجية.