تبدو موجة التفجيرات الحالية في العراق، التي حصدت مئات القتلى خلال أيام، أكثر ارتباطاً بما يجري على تخومه، وإن كانت البيئة المحفزة لها والدوافع نحوها متوافرة أصلاً في ظل حال الاحتقان غير المسبوق الذي تشهده الساحة العراقية. لا معلومات جديّة متوافرة عن الجهات المنفذة واستهدافاتها يمكن الاعتداد بها والاعتماد عليها.
السبب بسيط ينحصر في أن لا وجود لأجهزة أمنية جديّة في العراق، مجرد هياكل مخترقة على كل المستويات في صفوف جميع مكوناتها المذهبية، على ما كشفته تطورات الأسابيع الماضية. المعنيون في هذه الأوساط يرفعون لازمة لا يفارقونها: المجموعات البعثية والتكفيرية والمجاميع الإرهابية. «لا بد أن يقتنع (رئيس الحكومة نوري) المالكي بضرورة تغيير القيّمين على الأجهزة»، تقول مصادر في التحالف الوطني العراقي الذي ينتمي إليه، مشيرة إلى أن «هذا المطلب كان الثابت الوحيد في كل اجتماع للتحالف يعقد في ظل تدهور أمني». وتضيف: «هناك خروقات مخيفة، تطاول كل المستويات القياديىن وجميع المكونات المذهبية»، مشيرة إلى أن «كثيراً من ضباط هذه الأجهزة هم من المشمولين بقانون اجتثاث البعث، لكنهم حصلوا على استثناءات من المالكي نفسه».
مصادر إقليمية معنية بهذا الملف تؤكد أن «هناك معلومات عن شبكات أمنية معادية داخل الأجهزة الأمنية حيث الخروقات كبيرة على مستوى القيادة. التفجيرات لن تهدأ في العراق ما لم تُحل إشكالية هذه الأجهزة ونوعية القيمين عليها وهويتهم السياسية وخلفيتهم التاريخية. سيبقى الخارج يعبث بالأمن ما لم يضرب المالكي بيد من حديد. يجب بناء أجهزة تنتمي حقيقة إلى مسار التغيير كقوة نزيهة بعيدة عن المحسوبيات. المشكلة لن تُحل بالصلاة المشتركة بين السنة والشيعة».
أما الوسط السياسي العراقي، فيبدو منقسماً في تفسير ما يجري. بعضه يتحدث عن تداعيات ما يجري في سوريا، «وخاصة في منطقة القصير. في النهاية، إنّ من يقاتل هناك ليس سوى جزء مما يدعون أنه دولة العراق الإسلامية التي لها امتدادات هنا تسعى للانتقام لما يجري هناك». وبعض آخر يعيد السبب إلى «حال الاحتقان التي يعانيها الشارع السني العراقي، الذي أُجهضت انتفاضته، وأغلق عليه الحوار السياسي في مجلس النواب حيث الجلسات معطلة منذ أسابيع، فلم يبق أمامه إلا العنف»، مستدلة على ذلك بما حصل يوم أمس في البرلمان، من تعطيل للجلسة وعدم حضور المالكي وما تلاهما من تصريحات نارية لأسامة النجيفي. وهناك طرف ثالث يجمع السببين، قبل أن يضيف إليهما «حال الغضب التي تجتاح الشارع الشيعي بسبب الاعتداء على المقامات الدينية في سوريا». وتبقى الخلاصة واحدة: الحرب الأهلية المذهبية تطل برأسها مجدداً في العراق، بدليل أن التفجيرات الأخيرة تطاول مناطق وأهدافاً للطرفين.
البعد الإقليمي حاضر طبعاً في هذه المعمعة. تحميل لتركيا وقطر المسؤولية، وتحييد واضح للسعودية، في ما يبدو أنه جزء من توجه عام ترعاه إيران في محاولة للتقارب مع المملكة، على أمل أن تكون الطرف المقابل في أي تسوية إقليمية مقبلة. فبغداد تتهم أنقرة بأنها الداعم الأساسي، عسكرياً وأمنياً وسياسياً لأطراف المعارضة العراقية، وخاصة أنّ الصدام معها بلغ حد العداء الشخصي بين المالكي ورجب طيب أردوغان الذي فتح بلاده للنائب السابق للرئيس العراقي طارق الهاشمي. أما الدوحة، فتتهمها حكومة المالكي بأنها الممول الأساسي للأطراف المعارضة. بل تتحدث بعض المعلومات المنقولة عن مصادر عسكرية وأمنية عراقية رفيعة المستوى، عن أن نشر وحدات من «قوات عمليات دجلة» في محافظة صلاح الدين شرق تكريت، الذي أدى إلى اشتباكات مع قوات البشمركة أواخر العام الماضي، إنما جاء بهدف «إغلاق قاعدة عسكرية لوجستية قطرية في المنطقة كانت مهمتها تأمين نقل المساعدات العسكرية إلى مجموعات المعارضة السورية عبر الحدود الشرقية للعراق».

نيران ورماد

يخطئ من يختصر ملف أزمة المناطق الغربية في العراق بتركيبة المعادلة الداخلية العراقية، برغم أهميتها، سواء من حيث اندلاع الانتفاضة، أو من حيث خمودها النسبي. العامل الخارجي كانت له اليد الطولى في تحديد أطر وميكانيزمات ما حصل. والفرضية الأكثر إقناعاً هنا تربط اندلاع التظاهرات وتمركزها في الطرق والمفاصل التي تربط العراق بسوريا، بمحاولة الفريق المناوئ للنظام الحاكم في دمشق قطع طرق الإمداد البرية التي يرجح أنها تستخدم لنقل وسائل الدعم له. وهي تربط قرار استهداف الجيش العراقي العامل في تلك المنطقة ومحاولة إخراجه منها، بحركة وحدات هذا الجيش لإقفال الحدود في وجه حركة نقل السلاح والمقاتلين لمصلحة المعارضة السورية. وهي أيضاً تفسر اندلاع «الانفجار الكبير» في الحويجة، بموقعها الجغرافي الذي يواجه منطقة الحسكة، معقل «جبهة النصرة»، أقوى المجموعات المسلحة في سوريا.
الأهم في هذه الفرضية أنها تربط إخماد هذه الانتفاضة بقرار إقليمي ــ دولي، دفع إليه التقدم العسكري للجيش السوري النظامي على أكثر من محور داخل بلاد الشام. وبحسب هذه الفرضية، إن أي انتفاضة للمناطق الغربية في العراق لن يكتب لها النجاح إن كانت معزولة، بسبب موازين القوى داخل العراق نفسه. وبالتالي، لا معنى لانتفاضة كهذه إلا إذا كانت مكملة لأخرى في سوريا في حالِ تصاعدٍ، ما يؤدي إلى أن تتغذيا من بعضهما البعض. وعليه، فإن التطورات الميدانية السورية هي التي أملت التهدئة في الشارع العراقي، لأسباب تكتيكية ليس إلا. وهي نفسها، مع تعاظم خسائر المجموعات المسلحة واستهداف المقامات، انعكست تفجيرات عشوائية انتقامية على الساحة العراقية. ويبدو أن المالكي يكتفي بمسارين في هذا الملف: الأول، التقارب من العشائر السنية ومحاولة استمالتها، فيما الثاني المضي قدماً بحملته الأمنية والعسكرية في المناطق الغربية ضد المجموعات التكفيرية التي تُعد امتداداً لجبهة النصرة في سوريا.

الرياح الكردية

هذا على المستوى الأمني. أما في السياسة، فالمصيبة أعظم. الوضع الصحي للرئيس جلال الطالباني ليس تفصيلاً، على مستوى العراق ككل ولا في الداخل الكردي. والخسارة هنا، بالنسبة إلى بغداد، متعددة: أولاً، بسبب شخصية الطالباني التوافقية وقدرته على التفاهم مع الجميع، فضلاً عن ارتباطاته الإقليمية التي تحتل في طهران موقع الصدارة. وثانياً، بحكم كونه الشخصية الكردية الوحيدة التي تتمتع بالمشروعية التاريخية والنضالية للموقوف في وجه مسعود البرزاني المعروف بارتباطاته مع تركيا وأميركا وحلفائهما في المنطقة. من هنا تجد مجموعة المالكي نفسها أمام تحديين: الأول، له علاقة بترتيبات خلافة الطالباني على مستوى رئاسة الجمهورية. وهنا تبرز زيارات الطامحين إلى الرئاسة، بدءاً من هيرو الطالباني، زوجة جلال، لإيران حيث التقت كبار قادة الجمهورية الإسلامية، وفي مقدمتهم المرشد علي خامنئي والرئيس محمود أحمدي نجاد، ومن بعدها نائب الأمين العام الحالي لحزب الطالباني ورئيس حكومة إقليم كردستان، برهم صالح، وزعيم المعارضة الكردية نيشيروان مصطفى، الذي انشق عن الاتحاد الوطني ويرأس حالياً حركة التغيير. أما الثاني، فمعركة رئاسة إقليم كردستان نفسه، حيث الخلافات لا تزال مستعرة حول أحقية مسعود البرزاني بالترشح لولاية ثالثة.
والأحاديث التي يجري تداولها في الصالونات السياسية في بغداد تشير إلى أن مرض الطالباني والمطالبات بإعفائه من الرئاسة بحجة عدم قدرته على ممارسة مهماته، تزيد حدة التوتر الكردي ـــ الكردي، وإن كانت يمكن أن تتحول في لحظة ما إلى مخرج، مع تزايد التسريبات حول نيّة البرزاني، الذي تشيع أوساطه أنه قد لا يترشح مجدداً لرئاسة الإقليم، الترشح للفوز برئاسة العراق، في ظل تساؤلات، في حال تحقق هذا السيناريو، عمّا إذا كان الحزب الديموقراطي سيتخلى عن قيادة الإقليم للاتحاد الوطني وبأي شروط. وخطورة هذا السيناريو بالنسبة إلى المالكي، السعيد بأن حليفه في التحالف الوطني نائب الرئيس خضير الخزاعي هو من يتولى مهمات الرئاسة حالياً بالوكالة، أن من صلاحيات الرئيس الطلب إلى البرلمان حجب الثقة برئيس الحكومة، خطوة رفض الطالباني القيام بها رغم كل الضغوط. لكن البرزاني، في حال وصوله إلى هذا المنصب، لن يمتنع عنها، وبالتالي يصبح عنق رئيس الحكومة في يده.
ولعل هذا ما يفسر ضغوط بغداد، تحت عنوان التضحيات العظيمة التي قام بها الطالباني للعراق، من أجل وقف البحث في تنحيته وخلافاته وانتظار تعافيه من مرضه الذي يعالَج منه في ألمانيا.
ولا مفر في هذا المقام من التذكير بزيارة نيجيرفان البرزاني الأخيرة لبغداد، التي كانت مفصلية، بإخراجها الأكراد، ولو مؤقتاً، من دائرة الصراع المباشر في حكومة المالكي التي كان الوزراء الأكراد قد انسحبوا منها بسبب اعتراضاتهم على موازنة 2013. وقتها، جرى الحديث عن خلفيات كثيرة، بينها الصراع الداخلي الكردي وعن اتجاه حكومة أنقرة لإبرام تسوية مع عبد الله أوجلان ستحول البرزاني، في حال تحققها، إلى ما يشبه «مختار إربيل»؛ لكون الثقل الأساسي للأكراد سيكون في دياربكر. لكن العامل الأهم، إضافة إلى ما نشر عن ضغوط أميركية وإيرانية تستهدف تهدئة الأوضاع في العراق كل لغاية في نفس يعقوب، يتركز على مخاوف حكومة إربيل من عودة المجموعات التكفيرية إلى غرب العراق، وخاصة إلى الحويجة (التي تبعد ٧٠ كيلومتراً فقط عن كركوك)، ما يهدد الإقليم الكردي بإمكانية تسلل «المجموعات الإرهابية» إلى داخل حدوده. ومعروفة حساسية السلطات الكردية المفرطة في شأن أمن كردستان. من هنا يمكن فهم سبب انتشار قوات البشمركة في محيط كركوك التي يدرك الأكراد أن قرار ضمها إلى كيانهم، إقليمي ـــ دولي، ولا يمكن إعادةَ تموضع بضع وحدات عسكرية في محيط المدينة حسمُه.
وبغض النظر عن الخلفيات، يبدو قرار التقارب بين بغداد وإربيل أكثر جديّة هذه المرة، بدليل ضم اللجنة المشتركة التي كلفت الإشراف على تنفيذ التفاهمات المعلنة، اسمين بالغي الدلالة: الأول طارق نجم، المدير السابق لمكتب نوري المالكي ومستشاره الموثوق والمعروف بقدراته الأمنية والتنظيمية. أما الثاني، فوزير الأمن الوطني فالح الفياض المقرب من رئيس التحالف الوطني إبراهيم الجعفري. علماً بأن انتقادات كثيرة وجهت إلى المالكي، لاجتماعه بنيجيرفان تحت عنوان أن هذا الأخير، وإن كان منصبه الرسمي رئيس حكومة إقليم كردستان، ولكنه في المعادلة العراقية يوازي منصبه منصب محافظ أو أمين مدينة كبرى، وبالتالي كان على شخص آخر بمنصب موازٍ في بغداد استقباله، لا رئيس حكومة العراق بنفسه.



لم ينجح أحد

إلى جانب كل المشاكل التي يعاني منها العراق، إلا أن مصيبة المصائب لعلها تتركز في درجة الفساد غير المسبوق الذي تجعله أشبه بجمهورية موز يحتل المرتبة 169 من أصل 174 في العالم من حيث الأسوأ في هذا الإطار. لا شيء يعمل. لا مشروع يجد طريقه إلى التنفيذ إلا في ما ندر، وبعد طول عذاب ودفعات ووساطات ورشى. حتى كانت الطرفة الشهيرة أن أي بناء عام لم ينجز منذ الغزو الأميركي في 2003، وأنه إذا أجريت مسابقة لاختيار فائز في مناقصة لمشروع ورصد اعتماداته ومباشرة تنفيذه في عام واحد تكون النتيجة: لم ينجح أحد.
قلة من قضايا النهب وجدت طريقها إلى القضاء. ومع ذلك كان لافتاً بيان هيئة النزاهة الأخير الذي أعلن أن تلك الهيئة أحالت خلال الربع الأول من العام الجاري 1509 متهمين بارتكاب جرائم فساد على المحاكم المختصة في 1001 قضية فساد إداري ومالي تتصل بمشاريع تتجاوز كلفتها الإجمالية 112 ملياراً و 290 مليون دينار (نحو 900 مليون دولار).