دمشق | يرى محللون سياسيون وخبراء اقتصاديون أنّ ما لم يستطع البارود إرساءه في سوريا طوال عامين، ربما يستطيع تثبيته الاقتصاد اللاحق محمولاً على مشروع «مارشال سوري»، ليتم عبره استكمال «إحراق سوريا من الداخل».
يتقدم بثبات، ومنذ مؤتمر جون كيري ــ سيرغي لافروف الأخير، يجهّز المؤتمر الدولي الموسع حول سوريا وتنشغل الدبلوماسية الدولية في حراك نشيط ومحموم، بينما تستمر المعركة المحتدمة على الأرض لتسجّل خلال الأسبوعين الماضيين أعلى درجات تصعيدها، يبدو أن مشروعاً اقتصادياً جديداً يُصاغ لسوريا «جديدة». صياغة تجري بأقل ما يمكن من العلنية وبأدق التفاصيل، إنها خطة إعادة إعمار سوريا وفقاً لوصفات الأم الرؤوم لشعوب العالم الثالت «البنك الدولي».
وإذا كان طرح أقسام عريضة من المعارضة السورية ومن النظام، قد تميّز خلال كامل الأزمة السورية بغياب ــ أو إخفاء ــ الرؤية الاقتصادية لسوريا ما بعد الأزمة، الأمر الذي جرى تبريره مراراً بكون المسألة الاقتصادية ثانوية أمام «المؤامرة الكونية» من جهة، وأمام «الاستبداد الوحشي» من جهة أخرى، إلا أنّ ذلك لم يمنع ظهور بعض الأصوات «الأكاديمية»، من هنا ومن هناك، لتطرح رؤيتها لاقتصاد ما بعد الأزمة تحت مسمى «مشروع مارشال السوري»، الذي طرحته «مجموعة عمل اقتصاد سوريا» التابعة للمجلس الوطني السوري المعارض، والتي يديرها كل من أسامة القاضي وفرح الأتاسي.
يستند «مارشال السوري» من حيث جوهره إلى المدرسة الليبرالية في الاقتصاد، ومن حيث التطبيق فإنه يستند إلى قروض على دفعات من البنك الدولي تصل إلى 20 مليار دولار، مشروطة باستكمال تحرير التجارة والخصخصة، وبرفع الدعم كلياً وإنهاء دور الدولة في السوق، وبتشريعات تسمح للاستثمارات الأجنبية باستقدام ما يصل إلى 40% من عمالتها من خارج سوريا، إضافة إلى سياسات ضريبية شديدة التساهل مع الاستثمار الأجنبي.
ولعل أهم الأصوات الداعية إلى «مارشال» جديد، هو صوت نائب رئيس مجلس الوزراء السابق للشؤون الاقتصادية عبدالله الدردري، الذي يراه الكثيرون «أسطوانة مشروخة»، والذي يرافق صوت «مجموعة عمل اقتصاد سوريا»، وترافقه أيضاً شخصيات في النظام، ليس آخرهم الاقتصادي أيمن قحف، رئيس تحرير موقع «سيريان ديز». قحف نوّه، يوم الخميس الماضي في مقابلة على قناة «روسيا اليوم»، بالتحضيرات و«بالعمل الكبير» الذي تقوم به «الأسكوا» بزعامة كبير اقتصادييها عبد الله الدردري، لكي «نعرف ماذا علينا أن نفعل في اليوم الأول بعد الأزمة»!
ولعل التسارع الكبير، والانتقال الواسع خلال الشهر الماضي إلى ساحة العمل العلني في ما يخص نموذج سوريا الاقتصادي اللاحق عبر جملة من المشاريع والمخططات التي تعمل عليها هيئات بحثية دولية أو مدعومة دولياً، يجد ما يفسره ليس في اقتراب استحقاق إعادة الإعمار فقط، بل يجد تفسيره أيضاً في أنّ ذلك «الحل السياسي» ذاته، ليس سوى استمرار للمعركة الدولية التي لم تكسر عظم أحد حتى الآن، ولكن بإحداثيات جديدة سيكون التوجه الاقتصادي اللاحق بينها دون أدنى شك. ولذلك فإن معركة سياسية كبيرة ستخاض لتحديد الطريقة التي ستتم من خلالها عملية إعادة الإعمار، لأن نموذج سوريا ما بعد الأزمة الاقتصادية، والسياسية إلى حدّ بعيد، إنما سيتحدّد على طريقة تنفيذ إعادة الإعمار، وهذا بالرغم من رأي الدردري، في مقابلة أجرتها معه Syrian pages، الذي قال فيها بأن «السؤال حول شكل الاقتصاد هو اليوم خارج سياق البحث، لأننا بحاجة لإعادة الاعمار أولاً».
ورغم جميع التعقيدات الاقتصادية التكنيكية، فإن طريقين أساسيين واضحي المعالم، هما اللذان ستسير سوريا في أحدهما، الأول هو «مارشال السوري» الذي يشكل الاستمرار المنطقي لخط سير النظام الحالي المبني وفقاً للمنطق الليبرالي الجديد المتسول على أبواب صندوق النقد، والذي يرى فيه العديد من المحللين السياسيين سبباً أساسياً لما جرى في سوريا خلال العامين الماضيين. ومن المفارقة أيضاً، أن من يبشر اليوم بهذا الطريق، هم تحديداً المعارضة «الأكثر شراسة»، والمتمثلة في «المجلس» و«الائتلاف»، يضاف إليهم مناصرون حاسمون من بعض الأطراف المهمة والمفصلية في النظام السوري، والمثال الذي ذكرناه في المتن هو أحد المعبرين عنها.
ويعبّر الدردري عن المشروع المرتقب في لقاء Syrian pages المشار إليه سابقاً، فيقول: «إن الكثيرين يخافون من شروط البنك الدولي لكن الواقع يقول إننا لا نستطيع الإعمار من دون قروض»، ولكن الواقع يقول أيضاً إن القروض لا تأتي دون شروط. ويقول أن «البنك الدولي» ليس المقرض الوحيد، وهذا ما يراه أصحاب الطريق الثاني.
ينطلق أصحاب الطريق الثاني، وهم موجودون في الشارع السوري وفي المعارضة وفي النظام أيضاً، من مقولة أساسية هي أنّ «أفضل القروض الخارجية هي أقلها سوءاً»، والتعبير هو للباحث الاقتصادي في جامعة «غرونوبل» الفرنسية، وعضو حزب الإرادة الشعبية، سلام الشريف الذي قدّم تصوراً مغايراً تماماً لذاك الذي يبشّر به الدردري، إذ حيث يرى الشريف بأنّ التمويل الأساسي يجب أن يكون داخلياً من خلال وضع اليد على جزء من مقدرات الفساد المتراكمة، إضافة إلى التركيز على القيم المطلقة الكامنة في قطاعات عديدة غير مستثمرة بعد. وإذ يرى أنّ الحاجة إلى الاقتراض لا يمكن إنكارها كلياً، فإنه يثبت أن حلقة احتكار التمويل من قبل الدائرة الغربية قد تم كسرها فعلاً عبر مقرضين جدد على رأسهم الصين التي تعتمد على الإقراض العيني الملموس بالتصنيع، وبشروط أفضل بما لا يقاس من شروط الإقراض الغربي.
يبدو أنّ استكمال الإرادة الأميركية في الداخل السوري، لن يتحقق بغير تقييد اقتصادي عبر إعادة الإعمار يحدد المستقبل اللاحق لسوريا. بالمقابل فإنّ إرادة السوريين للحرية وللعدالة وللتخلص من كافة أشكال القمع المباشر من الطرفين، والاقتصادي غير المباشر، لن تجد طريقها إلى التحقق بسهولة، فالأعداء كثر وأكثرهم شراسة ذاك الذي بين ظهرانيهم، والمعركة الاقتصادية التي جرى تأجيلها طويلاً تدقّ الآن طبولها.