اللاذقية | يتقاسم أهل مدينة اللاذقية أحزانهم في ما بينهم، بكافة طوائفهم؛ فأصوات الرصاص لا تتوقف بسبب تشييع شهداء الجيش والقوى الأمنية قادمين من مدن الاشتباكات، ما يعطي الفرصة للمنتقدين لأن يرفعوا أصواتهم معترضين على الأجواء المزعجة في مدينة غرقت في الشائعات ومجالس العزاء، وامتلأت رؤوس بعض شبانها بفكرة «الجاهزية الدائمة» لأي حرب محتملة على مناطقهم، ولا سيّما في ظل وقوع قذائف على قرى القرداحة، مصدرها المتوقع هو قرية كنسبّا التابعة لبلدة الحفّة. المظاهر المسلّحة تثير الجدل، ويعلو سخط العقلاء ممن يرفضون السلاح إلا في يد الدولة ممثّلة بالجيش، فيما يعترض الكثير من العلمانيين على أداء الدولة غير المُرضي طوال أشهر الأزمة، مشيرين إلى أنه امتدادٌ لأخطاء السنوات السابقة، والتي ولّدت أزمة قائمة لن تنتهي آثارها لأجيال قادمة. يذكر عامر، طالب جامعي من قرى جبلة، بكثير من الغضب اعتقال عضو «هيئة التنسيق»، المعارض عبد العزيز الخيّر، الذي لا ذريعة لدى سجّانيه حول انتمائه إلى أي تنظيم سلفيّ أو مسلح، وإلا «فلمَ تنكر السلطات اعتقاله!». يرفض الشاب المعارض الاقتناع بنفي الدولة السورية اعتقال الدكتور الخيّر، مشيراً إلى أن النظام لم يكن صادقاً يوماً، والسوريون اعتادوا منه الكذب. ويرى أن أداء السلطة الحالي في مدينة بانياس سيعمّق الجرح السوري الذي لا يلتئم، ويعيد إلى الأذهان أحداث قرية البيضا عندما أهينت الكرامة السورية بدوس رؤوس المتظاهرين هُناك. لا يتوقف الحديث عن اشتراك عناصر من حزب الله في القتال ضمن قرى ريف القصير. وما بين التأييد والاعتراض، يرفض البعض حمل السلاح من أي جهة غير سورية، ولو كانت تنتمي إلى المقاومة، فيما يرى البعض الآخر أن من واجب المقاومة ردّ الجميل للبلد الذي فتح لها كل ما لديه لتحقق انتصاراتها على العدو الإسرائيلي.
حرب الوجود بين النظام ومعارضيه تظهر بأقسى تجلياتها ما بين المدينة وريفها، ففي المدينة التي لطالما تميزت بعلمانية سكانها وتحررهم وثقافتهم، انكفأ الكثير من الشباب النخبة نحو انتمائهم الطائفي، هاربين من ضعف الدولة وتركها «الحبل على الغارب» لمواطنيها، ريثما تنتهي حربها المعلنة على أعدائها المسلحين. وهُنا يعود دور رجال الدين في حياة أهل المدينة، بعدما كان قد تراجع في السنوات الأخيرة. «المجلس الإسلامي العلوي في سوريا والمهجر» اسم أطلق على تجمّع لم يعرف به السوريون سابقاً، رغم خوضه غمار التأسيس منذ عام 2007، حيث جرى التقدم بطلب الترخيص إلى وزارة الأوقاف السورية، ولم تأتِ الموافقة حتى تاريخه، ما يعني في القانون السوري موافقة على وجود المجلس. يقف العديد من أبناء الطائفة في موقع الرفض لوجود المجلس وعمله، إذ يرونه ترسيخاً للطائفية في سوريا، ولولا الأزمة السورية لما أُفرز مثل هذه التحركات التي اتُّهمت بـ«الانفصالية». ذاع صيته مباشرة بعد إعلان حصول مؤتمر للعلويين المعارضين للرئيس بشار الأسد في القاهرة، حيث طعن المجلس بتمثيل أعضاء المؤتمر لأبناء الطائفة العلوية، في حين أنهم، بحسب المجلس، لا يمثلون فعلياً سوى أنفسهم، ليأتي الرد من قبل بعض السوريين من أبناء الطائفة بالتساؤل: «وهل يمثّل أعضاء المجلس العلوي سوى أنفسهم أيضاً؟». الجدل لا يتوقف داخل الطائفة نفسها، باعتبارها طائفة بلا مرجعية، قائمة على فلسفتها وفكرها الخاصَّين.
الشيخ موفق غزال، عضو المجلس الإسلامي العلوي، نفى لـ«الأخبار» ما أشيع عن مساعي المجلس إلى الحصول على صفة «المرجعية» للطائفة، مستنكراً هذا الهجوم على المجلس بالتزامن مع عقد مؤتمر للعلويين في القاهرة، وملمّحاً إلى توافق المنتقدين مع المؤتمرين المعارضين ضد المجلس. ويرى الشيخ غزال أنّ التفويض إلى 100 ألف شخص من الطائفة هذا المجلس يعني تمثيلاً شرعياً للطائفة ككل. وللشيخ علاقة لا ينكرها بمقاتلي «المقاومة السورية» في جبال اللاذقية، وهو يشارك في العمليات العسكرية للجيش السوري مع عناصر جيش الدفاع الوطني. لا ينفي الرجل أنه يضع نفسه تحت تصرف «المقاومة السورية» كمقاتل وليس كرجل دين، رافضاً استخدام صلاحياته الدينية ضمن الخط الوطني الذي تنتهجه «المقاومة السورية».
يجاهر الكثير من أبناء اللاذقية اليوم بانتمائهم الطائفي، مشيرين إلى أنهم يرفعون راية الوحدة الوطنية السورية في وجه التقسيم والمشاريع التي بدأت بوادرها تظهر في شرق البلاد وشمالها. وفيما يرفض السواد الأعظم من اللاذقيين أي تحرّك انفصالي، بل يقف كثيرون بوعي وقوة منتقدين كل حاملٍ للسلاح من غير عناصر الجيش السوري، والممارسات الخاطئة المتبعة من قبل رجال دين أو تنظيمات مسلحة خارج الجيش، يلتف كثيرون حول الجيش وحده دون فسح المجال أمام أي نقد أو انتقاد. وفيما يتوافق أهل المدينة على الشكاوى من تصرفات المسؤولين القيمين على المحافظة، تراهم يطالبون بأي مطلب يسهّل على الجيش مهمّته في منع تقدم مقاتلي المعارضة إلى قلب المدينة، كالنداءات التي ارتفعت لإنشاء مستشفيات ميدانية قريبة إلى النقاط العسكرية على خطوط التماس ما بين الطرفين المتقاتلين.
ينشغل أهل المدينة، أيضاً، بالاهتمام في شؤون النازحين من حلب وإدلب والمدن المجاورة، ممّن فقدوا بيوتهم ومعيليهم. يرى سامر، شاب متطوع في الاهتمام بمتطلبات النازحين، أن استقبال المدينة لعائلات من خارج المحافظة لم يأتِ بخير على أهلها، إذ لطالما سمع المتطوعون من أطفال النازحين المقيمين في المدينة الرياضية، عن آبائهم المقاتلين في صفوف الجيش الحُر. ويضيف الشاب المتطوع قائلاً: «نحنُ نشارك في دعم أخوتنا النازحين، إيماناً منّا بدورنا كمواطنين باعتبارنا أخوة وشركاء في الوطن، ومحاولة لتخفيف الضغط عن الدولة التي كثر ضغط الواجبات عليها».
مواقف عديدة تجعل أصوات متطرفي المؤيدين في اللاذقية تغلب بالحُجّة على أصوات المعتدلين والمؤمنين بالمواطنة، وأمام رعاية أبناء مقاتلي المعارضة تبدو شراكة المواطنة نكتة سمجة على مسامع أهالي الشهداء مثلاً، بينما يدخل الساحل السوري في دوّامة عنف طائفي لا مكان للعقل فيها إلا تحت الرعاية الشرعية للجيش السوري.