لم أكن محبة للمدرسة. على العكس، كنت أكره الاستيقاظ صباحاً، وكنت أكره أيضاً الزي المدرسي وطابور الصباح. أما الحصص المدرسية، فقد كانت تصيبني بالضجر والإرهاق، كذلك كانت هنالك عداوة بيني وبين الكتب ومؤلفيها ومعديها. باختصار، المدرسة كانت مرحلة لا بدّ منها. مرحلة عبور (إذا صحت تسميتها بذلك) أُجبرنا جميعنا على سلوكها. بعد نجاحي بامتحان الثانوية العامة، لم أذهب إلى مدرستي إلا لآخذ شهادتي. وبصراحة، لم أكن أفكر في زيارتها يوماً. لكن بالرغم من كل هذا، لم أستطع أن أُخفي بهجتي عندما قابلت إحدى معلماتي في حرم جامعتي "بيرزيت"، حتى أني ركضت إليها وعانقتها كالأطفال! ولوهلة شعرت بنفسي تلك الفتاة التي ترتدي الزي المدرسي "الرديء" كما كنت أصفه، ولكن بحب وسعادة هذه المرة.
نعم. شعرت بالفخر. شعرت بالفخر عندما قابلت معلمتي وفهمت أني مدينة لها ولقسوتها ولصوتها الذي كان يختفي مع قدوم الحصة الثامنة. مدينة لقلمها الأحمر الذي غطى ورقتي مراراً، وأنه لولا صبرها وتحمّلها تدريس مناهجنا التعليمية، بما فيها من نواقص، ومحاولتها تغطية الفجوات التي تملأ نظامنا التعليمي البالي، لما كنت أقف قبالتها الآن.
ما دفعني إلى الكتابة اليوم هو سؤال دار في رأسي منذ الصباح: ما هي مشاعر الطلبة عندما يرون أفراد الأمن الفلسطيني وقد نصبوا حواجز أمام معلميهم المعتصمين أمام رئاسة الوزراء في رام الله؟ تحرك لجأوا إليه بعدما استنفدوا كل طرق الاحتجاج الممكنة، بما فيها الإضراب الذي أدى إلى إغلاق المدارس الحكومية بنحو كامل. كل ذلك ولم يُستجَب لمطالبهم أو حتى أُخذت على محمل الجد.
إجراءات التصدي للاعتصام تضمنت نصب حواجز على مداخل رام الله ومدن أخرى، وسحباً لرخص السائقين الذين كانوا يقلون المعلمين، واحتجاز بطاقات المعلمين الشخصية، واعتقال بعضهم، وأخيراً استقبالهم بقوات مكافحة الشغب أمام رئاسة الوزراء.
لن أناقش دوافع "الدولة الأمنية" للتصدي لاعتصام معلمين، ولن أحلّل المنطق الأمني الذي تعاملت به أجهزة أمن السلطة والحكومة مع مطالب المعلمين، ولن أخوض في شرح مفهوم "إعادة إنتاج العنف"، لكني سأكون صريحة وأخبركم أن هذا المشهد قد أثار غضبي، بل حتى إني شعرتُ بأن الانتقاص من حقوق المعلمين وكرامتهم هو مساس بكرامتي الشخصية.
نعود للسؤال الذي دفعني إلى الاتصال بأقربائي وأصدقائي ممن يدرسون في المدارس الحكومية. أمضيت اليوم وأنا أتحدث إلى طلاب المدارس، فشهادتي وحدي مجروحة، لأني أنهيت التعليم المدرسي وأصبحت أنظر إلى معلميّ من موقع مختلف تماماً. لا أخفيكم أن أغلب من تحدثت إليهم لم يبدوا حباً شديداً لمعلميهم. فَهُم يرون في الأساتذة مصدراً للسلطة والتحكم والإجبار، ولكن انزعاجهم كان واضحاً من قمع حراك المعلمين، بالنسبة إليهم لا يحق لأيٍّ كان أن يقلل من احترام هؤلاء، أو يعترضهم، أو يمنعهم من ممارسة حقهم الطبيعي في التظاهر والاحتجاج.
لا يحق لأفراد الأمن معاملة معلميهم كمجرمين وخارجين عن القانون، ولا يحق لهم اعتقالهم. أبدى الكثير من الطلبة استعدادهم للانضمام إلى الاعتصام مع معلميهم، حيث قال أحدهم: "أنا مش رح أخلي أستاذي يوقف لحاله بكرة، إذا فش دوام بدي الحقه على الاعتصام"، وعندما سألته عمّا إذا كان أساتذته يستخدمون العنف مع الطلاب، أجابني ضاحكاً: "طبعاً، ليش في أستاذ ما بضرب؟!". لكنه لاحقاً، أضاف أن هذا موضوع منفصل، أي نعم إن الأساتذة يستخدمون العنف، وأحياناً العنف المفرط العائد لبنية المجتمع الفلسطيني الأبوية البطريركية، إلا أنني أظن أن رفض الطلاب للعنف والقمع الذي مورس على أستاذتهم ومعلميهم نابع أساساً من رفضهم لمبدأ التعنيف ومصادرة الحقوق، وأظنهم بهذا سبقوا كل الأطراف بوعيهم.
إحدى نتائج إضراب المعلمين واعتصامهم، هي أن مفاهيم الحرية والنضال من أجل نيل الحقوق، والتظاهرات، والاعتصامات، التي هي بالأساس ليست بغريبة عن مجتمع يسعى إلى استعادة أرضه وكرامته، أصبحت متداولة بين الطلاب في سياق الحياة اليومية، كمحاولة محاكاة إضراب المعلمين ونضالهم النقابي، ولا سيما أن الطلاب يتابعون أخبار معلميهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ويتفاعلون مع تطورات الأحداث بمشاركتها أو التعليق عليها. وفي النهاية، إن أي حراك اجتماعي، وإن لم يهدف إلى التغيير الجذري فهو بشكل ما يقوم بتعزيز وقيم معينة، وبهذا لا بد أن حراك المعلمين سيترك بصمة في وعي الطلاب وأثراً في سلوكهم وتصوراتهم عن مكانة مفاهيم سامية كالحرية والكرامة في حياتهم اليومية.