دمرت في الأيام الماضية مئذنة الجامع الأموي في حلب التي شيّدت قبل 900 عام. القصف حوّل المعلم بثلاثين ثانية إلى ركام، وتبادل طرفا الصراع الاتهامات، متناسيين الاتفاقيات الدولية التي تحظر استخدام المواقع الأثرية مراكزَ قتال.
لم تتحمّل مئذنة الجامع الأموي القصف، فانهارت في باحة المسجد. المئذنة التي صدحت الصلاة منها لـ900 سنة، والتي هي من معالم هوية حلب، باتت اليوم كومة ردم. وبما أنّ لتدميرها رمزية عالية في إبراز الانحطاط الفكري للمقاتلين، تبادل الطرفان الاتهامات في المسؤولية. فالجيش السوري يتهم «إرهابيين» من «جبهة النصرة» بتفجير المئذنة وتصوير الحدث لإلصاق التهمة به. وفي المقابل، تبثّ صفحة «حماية الآثار السورية» على موقع «فايسبوك» فيلماً مصوراً من داخل الجامع يؤرخ عملية القصف المدوي، ومن ثم تحوّل المئذنة إلى ركام. في أقل من ثلاثين ثانية، اختفى المعلم! ويعرض الفيلم لاحقاً المقاتلين المتمركزين في قاعة الصلاة، وهم يختبئون خلف أكياس الرمل ويطلقون النار عشوائياً. صور حيّة لحرب حقيقية تؤرخ الدمار والخوف!
وبالطبع، استغل الطرفان عملية الهدم لأغراض سياسية، وللإشارة إلى عدم اهتمام الآخر بالحضارة والتاريخ. لكن ما يغيب عن النقاش هو تقاسم الطرفين المسؤولية عن دمار المئذنة بين. فالفيلم المصوّر من داخل قاعات المسجد يبرز بالصوت والصورة استخدام المعلم مركزَ حرب، وتأكيد المقاتلين عدم تمركز قناص في المئذنة، إنما يدينهم أكثر. فهذه التصاريح والتمركز العسكري في قاعات المسجد جردوا المكان من هويته التاريخية، وحوّلوه إلى ساحة قتال للمرة الثانية في أقلّ من 7 أشهر. ففي تشرين الثاني الماضي حينما كان الجيش السوري متمركزاً هو أيضاً داخل الجامع، جرت معارك في الباحة الخارجية وأضرمت النار في قاعات الصلاة، وفي 28 شباط الماضي سيطر المقاتلون على المسجد بعد اشتباكات عنيفة مع القوات النظامية التي انسحبت منه وتمركزت في مبانٍ مجاورة له. الاقتتال حول المسجد حوّله إلى ساحة قتال فعلية، يتحمّل الطرفان فيها الضرر على الصرح التاريخي. فأفلام الفيديو تبرز المقاتلين وهم يطلقون النيران عشوائياً داخل باحة المسجد وباتجاه حوض الوضوء. وتجدر الإشارة إلى أنّ اتفاقية «لاهاي» لحماية الممتلكات الثقافية في فترات النزاع المسلح، واتفاقية «لائحة التراث العالمي» لمنظمة اليونسكو يحظران استخدام المواقع المدرجة مراكزَ عسكرية لاستحالة حمايتها بعد ذلك. وأطلقت منظمة «اليونسكو» أكثر من أربعة تصريحات استغاثة تطلب من المقاتلين في الطرفين تحييد المعالم الأثرية والتاريخية، وخاصة في مدينة حلب القديمة المدرجة على لائحة التراث العالمي سنة 1986، ويُعَدّ الجامع الأموي من أهم معالمها. ولو أراد المقاتلون ذلك حقيقة، لما استخدم أيّ منهما المسجد مركزَ قتال. ولكن رمزية التمركز في الجامع طغت على الأهمية التاريخية، فبات كل طرف يشيد بنفسه كحامي الآثار؛ إذ صرّح، مثلاً، مسؤول في المعارضة المسلحة داخل الجامع الأموي، الذي عرّف عن نفسه باسم أبو عمر لوكالة الفرنسية للإعلام بأنّ «الموجودات التاريخية في المسجد باتت في مخابئ آمنة كي لا تقع في الأيدي الخطأ».
وبدأ علماء الآثار والترميم يرجون المقيمين في حلب أن لا يرفعوا الردم لكي يُعاد بناء المئذنة بحجارتها. والمضحك المبكي أنّ فيلماً مصوراً من «مركز حلب الإعلامي» عرض فيلماً جديداً من داخل الجامع الأموي يصوّر ركام المئذنة، ويتابع حديثاً بين المقاتلين يؤكدون فيه أنّ «المهندس سيعيد بناء المئذنة كما كانت سابقاً، وأنه كان قد صوّر حجارتها».
ما تخسره سوريا من تاريخ، لا يعوّض. فيمكن تشبيه المعالم الأثرية والتاريخية بالبشر، متى قتلوا رحلوا، ومتى دمروا اندثروا. فالترميم وإعادة الإعمار هي طريقة حديثة لإبقاء واجهة للتاريخ وللتخفيف من وطأة الخسارة. لكن «روح المكان» التاريخية انتهت وما كان من الماضي يصبح من الحاضر. المئذنة بُنيت من 900 سنة بأدوات ومواد وطريقة صقل للحجر فُقدت في يومنا هذا، وإن حاول المرمّمون إعادتها إلى مكانتها، فسيبقون على مسافة من الماضي. الطريقة الوحيدة لإنقاذ معالم سوريا تكمن في أن يبتعد طرفا النزاع عنها.