لا ينظر قيادي سوري باطمئنان الى الاختراقات والتهديدات الكبرى ضد سوريا الآتية من طرف تركيا أولاً، وثانياً من طرف لبنان، في حين أن التركيز الإعلامي على الدور الأردني في سوريا هو «أكبر مما ينبغي»، ويحجب رؤية مصادر الخطر الأكثر إيذاءً وفاعلية. كما أن بعض التقارير «ليس لها وزن»، مثل تقرير «لو فيغارو» عن موافقة الأردن على فتح أجوائه للطيران الإسرائيلي؛ فالأخير لا يحتاج، من الناحية العسكرية، إلى الأجواء الأردنية، ما يجعل نشر مثل هذا التقرير، مقصوداً لذاته، بهدف «كسر الحاجز النفسي» لدى الأردنيين، ودفعهم للتغاضي عن التعاون الفعلي مع الأميركيين، أو حتى «إضعاف النظام الأردني أكثر فأكثر، وعزله شعبياً، ودفعه نحو المزيد من التورّط».
مع ذلك، ألححنا على معرفة كامل الحقائق على الجبهة الأردنية. ما الذي يحدث؟ «الآن، لا يكاد يحدث شيء». منذ النصف الثاني من آذار لاحظ السوريون تراجعاً نوعياً في تدفّق المسلحين والسلاح من جهة الأردن. هل كان للاتصالات الأمنية والعسكرية بين البلدين الدور الحاسم في هذه التهدئة، أم أن السبب يعود إلى الضغوط الداخلية على قلب مؤسسة الحكم من الحركة الوطنية والشعبية، التي كان ردّ فعلها على انكشاف عمليات التدخل الأردني في سوريا، حاداً وواسعاً؟ أم أن هناك خطوة أميركية نحو الخلف؟ أم أن إنجازات الجيش السوري في ريف دمشق، قد عطّلت خطة موضوعة لاستخدام درعا «منطقة آمنة» أو حتى ممراً إلى المشاركة في معركة الجماعات المسلحة في دمشق، والتي تحولت هزيمة مبكرة؟ أم كل ذلك معاً؟
هناك جدل حول حجم التدخل العسكري في سوريا، يجد صداه المباشر على الجبهة الأردنية، المدّخرة، أميركياً، «للحظة الأخيرة»، لحظة سقوط النظام لمنع انتقال السلطة إلى السلفيين الجهاديين وتأمين الأسلحة الكيميائية أو لحظة «تكوّن قرار أميركي استراتيجي بالتدخل في سوريا».
ويقع حضور العسكريين الأميركيين المئتين إلى الأردن ــ وهم عبارة عن مجموعة «استخبارات واتصالات» تحت «بند الاستعداد للتطورات الدراماتيكية». هؤلاء العسكريون الذين اتخذوا لأنفسهم مواقع في ريف محافظة إربد، المحاذية للحدود السورية، ليسوا في وضع قتالي، أو التحضير لوضع قتالي، وإنما تنصبّ حركتهم على «استطلاع منطقة العمليات».
هنا، قد نجد إجابة ميدانية على سؤال إغلاق الحدود الأردنية أمام السلاح والمسلحين، «حتى بالتهريب»؛ فانتشار العسكريين الأميركيين، لا يسمح، أمنياً، بـ «تحركات غير مضمونة للسلفيين الجهاديين». وهو عذر تتفهمه السعودية، بحيث تكفّ عن الضغط لاستقبال المسلحين في الأردن وتسهيل حركتهم نحو سوريا.
بدء الخروقات
بدأت الخروقات على الجبهة الأردنية ــ السورية، منذ ربيع العام 2012، تحت الضغوط السعودية المكثّفة، وتضمنت خمسة مستويات، هي: أولاً، السماح لشبكات التهريب التقليدية بين البلدين بتغيير بضائعها المهربة من الاستهلاكيات والأجهزة الخ إلى أسلحة (مصدرها سعودي) وتشتمل على بنادق كلاشنكوف ورشاشات دوشكا وقاذفات «أر بي جي» وقنابل يدوية ومسدسات وذخائر، ولاحقاً مدافع متوسطة مضادة للطائرات العمودية ومضادة للدروع.
ثانياً، تسهيل تهريب مقاتلين عرب آتين من السعودية إلى الأراضي السورية.
ثالثاً، «غض الطرف»، بلا تنسيق، عن تسلل سلفيين جهاديين أردنيين عبر النقاط الحدودية «غير الآمنة». وهو ما كان يؤدي إلى اشتباكات معها من قبل عناصر عسكرية أردنية «غير مطلعة» على قرار غض الطرف الذي كان يُبلّغ في أضيق الحدود.
رابعاً، غض الطرف عن أو حتى التواطؤ الضمني مع معسكرات تدريب سرية ومحدودة السعة، أسسها الإخوان المسلمون، وعملت على تدريب وتهريب عناصر سورية وعربية.
خامساً، تدريب نحو خمسمئة عسكري سوري قبل فض الدورة، وإنهاء العملية في صيف العام الماضي.
لماذا لم يعلن السوريون عن هذه الخروقات؟ «أولاً، لأنها كانت تجري سراً، بل ببالغ السرية. وعلى الرغم من أنها كانت مكشوفة للجيش السوري الذي اصطدم، عدة مرات، مع مهربي سلاح أو مسلحين متسللين، فإن طابع السري بالذات، نُظر إليه كحل يستجيب للضغوط السعودية مع الحفاظ على موقف سياسي متزن من الصراع في سوريا».
وكان أمام دمشق، خياران: هل تضحي ــ بالتصعيد ــ بالموقف السياسي الأردني الإيجابي، رسمياً وشعبياً، أم تبتلع هذه الخروقات التي ــ وإنْ كانت مؤذية ــ فهي محدودة التأثير؛ فالسرية البالغة كانت تحد من الحجم والفاعلية. ورأت دمشق أن الإبقاء على السر ليس أفضل من الناحية السياسية فقط، وإنما، أيضاً، من الناحية العملية.
مطلع العام 2013، كان قد تم البدء بتدريب عناصر من الجيش السوري الفارين إلى الأردن. كانت الدورة مخصصة لخمسة آلاف عنصر، لم يكن ممكناً أن يلتحق إلا أقل من ثلاثة آلاف، بسبب أن الكثيرين من العسكريين الفارين إلى الأراضي الأردنية، كانوا إداريين وليسوا مقاتلين. انضم إلى الدورة مقاتلون إسلاميون من الجنسيات الليبية والتونسية والمصرية والسودانية، قدموا بترتيبات سعودية.
كانت عملية التدريب ــ التي تمت على أيدي عسكريين أميركيين ــ مكثّفة، وتهتم ببناء كتائب قوات خاصة مدربة على قتال الشوارع والتفجير والتفخيخ ومقاومة الدروع الخ. بالإضافة إلى التجنيد وقيادة العمليات. وفي النهاية، انجلت الدورة عن 1560 مقاتلاً تم تجهيزهم بالسلاح وأجهزة الاتصالات، وإرسالهم إلى سوريا كمجموعات بالتنسيق مع مجموعات مسلحة محلية في منطقة درعا.
هؤلاء زاروا الأردن سابقاً والتقوا مع مسؤولين أردنيين وسعوديين وأميركيين، وجرى شراؤهم وتجنيدهم للعمل مع القوة المدرّبة المتدخلة من الأردن، وتحت قيادتها.
نجحت هذه القوة في أواخر شباط/ أوائل آذار من العام الحالي، في إعادة تنظيم مجموعات مسلحة محلية، وضمها إلى صفوفها في إطار عملية قتالية واسعة، تمكنت من السيطرة على مخافر للشرطة ومقار حكومية وحزبية، لكن انجازها الأهم كان بالسيطرة على مقر قيادة لواء الدفاع الجوي (مقر القيادة وليس اللواء) والحصول على غنائم من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة. وفي النهاية، توصلت العملية العسكرية، المدعومة بتغطية معلوماتية من الأراضي الأردنية، إلى فرض سيطرتها على «درعا ــ البلد»، وعدة قرى مجاورة، وتحويل الطريق الدولي إلى دمشق إلى طريق «غير آمن»، لكن من دون السيطرة عليه.
توقفت العملية في منتصف آذار، محتفظة بما أنجزته، بعدما اتضح، أولاً، أن السيطرة على محافظة درعا ليست ممكنة، وثانياً، أن معركة الاستيلاء على دمشق، أصبحت غير واقعية، جراء بدء الضربات الاستباقية التي قام بها الجيش العربي السوري في ريف دمشق، ولا تزال مستمرة.
ما الهدف من عملية درعا؟ هناك تصوران (1) إمكانية سقوط المحافظة حتى الحدود الأردنية، ما قد يسمح بالبدء بإنشاء «منطقة آمنة»، (2) التواصل مع الجماعات المسلحة المنتظَر منها خوض معركة دمشق. لكن، وبالإضافة إلى العوائق العسكرية التي حالت دون تحقيق الأهداف الاستراتيجية للعملية، فإن « شيئاً ما» حدث، وجمّد الموقف.
وفي تقدير القيادة السورية، أن التدخل عبر الأردن، سيظل محكوماً بالمراوحة بين الضغوط الأميركية والسعودية، والضغوط الشعبية الأردنية المعاكسة، وبينهما قرار سياسي يأمل عدم التورّط أكثر، ويخشى الانزلاق.