السادسة إلّا ربعاً تقريباً، تجد الشمس طريقها إلى دمشق. لا شيء يضاهي صقيع المدينة. البرد في بيروت تحكمه الأبنية الكاتمة على الأنفاس، فيبقى خجولاً معتماً أكثر منه حاداً في العظم. الصّقيع في دمشق ممزوجٌ بالمساحة، وقسوة البادية القريبة، وما تجلبه الصّحاري على المدن. السادسة تماماً، الخمسيني في حديقة قصر الضّيافة المطلّة على شارع شكري القوتلي يعاين نباتاته على مهل، ويطمئن إليها بعد الليل الطويل، وتطمئن إليه هي أيضاً، ما زال الرجل يتنفّس ويضحك.

دمشق المتقدّمة

إن كنت آتياً من شتورا، لا تسمع سوى «نقّ» الصيارفة، سوريين ولبنانيين. لم تعد شتورا معبراً للأردنيين والعراقيين والخليجيين. توقّف المنادون عن أصوات الجغرافيا «درعا، الرقة، دير الزور، عمّان...»، وسائق تاكسي دمشق بشاربيه العريضين وشعره الكثّ الرمادي يدخن السيجارة تلو الأخرى على مضض، بانتظار أن تمتلئ سيارته. كانت شتورا دمشق « متقدّمة» في سهل البقاع، هي اليوم في أحسن أحوالها مجرّد ممرّ إلى البقاع الغربي وبعلبك والهرمل، ويدبّ فيها القلق إن قال أحدهم إن اشتباكاً مسلّحاً وقع بين آل جعفر وآل الصلح في بعلبك. الأزمة السورية قبضت على جيوب الصيارفة. الأزمة قبضت على خطّ الشام.

الوطن على سطح سيّارة

عند المصنع، يقف السوريون على خطّ المغادرة والعودة بصفوفٍ قليلة، لا تشبه «العجقة» بشيء، ومع ذلك تتأخر لدخول سوريا ساعة، ساعتين، لا تدري. هو الارتباك ربّما. السّيارات تحمل نازحين من سوريا هاربين من الموت المتعدّد، وقادمين إليها ليطمئنّوا إلى ما بقي منهم في بلادهم. قبل الأمن العام اللبناني بأمتار، مرسيدس من موديل الثمانينيات، علّقت عائلة نازحة وطنها على سطحها، بضع بطانيات وملابس مجمّعة، وما تيسّر من الذكريات، ومروحة بيضاء عتيقة.
يجزم عناصر الأمن العسكري السوري في المنطقة الفاصلة بين المعبر اللبناني والمعبر السوري بأن الطريق إلى دمشق هي أكثر الطرق أماناً في العالم، «جديدة عرطوز بعيدة عن طريقكن، ومحلولة». الشاحنات اللبنانية المحجوزة منذ أشهرٍ على يمين الطريق، كالأبنية المهجورة. على الحاجز أعلامٌ سورية كثيرة، والتفتيش الدقيق للسّيارات على الخطين يسبّب زحمةً كبيرة، ثمّة من ينكش سيارتك نكشاً هنا. في دمشق كل شيء للتفتيش. عيونك أوّلاً.

الغراب السخيف

ساحة الأمويين عصراً. الشّرطي يحمل دفتر محاضر الضبط. لا تعنيه أخبار الحرب والسلم. قانون السّير أولاً. إلى الشمال من الساحة، تقع حديقة المدفع. صارت الحديقة اسم على مسمّى، بضع شجيراتٍ خضراء تقاسمها الموت مع الفسحة. قبل فترة، سقطت هنا قذيفتا هاون مصدرهما الغوطة الشرقية. شلّع انفجار قذيفة شاباً وفتاة كانا يجلسان على مقعد خشبي تحت شجرة مشذّبة، وأحد الواقفين على شرفة منزل في الشارع المقابل. الموت عشوائي، الحزن عشوائي، والإرهاب لا ينبع من سيّارة مفخّخة فقط. يقولون هنا إن الخوف ضئيلٌ من قذائف الهاون؛ لأن الجيش أبعد المسلّحين عن المدى المطلوب لسقوط القذائف في هذه الأحياء. في محيط شارع الجلاء، عناصر حماية مقر السفارة السعودية متوارون عن الأنظار، ومبنيا سفارتي الدنمارك والسويد يبدوان من الخارج كمتحف دمشقي عريق لا يمتّ إلى اسكندنافيا بصلة. يقف الشهيد يوسف العظمة تمثالاً في وسط ساحة المحافظة. دمشق تلك أيام العظمة كانت تحارب سايكس ــ بيكو، التمثال لا يدري الآن أي سايكس ــ بيكو جديدة تنتظره تحت الشمس. مبنى محافظة دمشق محاطٌ هو الآخر بالسواتر الإسمنتية، والمرور عبره إلى الشارع الآخر يخضعك للتفتيش أيضاً. في المقابل، سينما الأهرام القديمة صامدة، فوق مدخلها لافتة من قماشٍ بالٍ جمع دريد لحام وعادل إمام وجاكي شان وفان دام في لوحة واحدة. وفوق شرفة المبنى، تشعر بضع حَمَاماتٍ رمادية بالقوّة، الغراب السّخيف يلاحقها ببطء من حجرٍ إلى آخر.

سوق « التنابل»

دمشق مدينة تأكل مما يزرع ريفها، ولا تنتظر بواخر الخضار والحبوب كي تبقى على قيد الحياة. هواؤها وطعامها منها وفيها. ابحث في بيروت عن هليون أخضر، عن شُمّر برّي وكمى بيضاء جميلة، لن تجدها بسهولة، لن تجدها في دكّان أو سوق شعبي، إن وجد. لا يزال سوق التنابل عامراً، حيّاً يُرزق ويَرزِق، الأغنياء إذاً لم يتركوا المدينة. ما يطيب وتشتهي مفروش أمامك على ناصياتٍ من خشب، حبوب البازيلا والفول الأخضر الطازج في أكياسٍ بلاستيكية، البقدونس والصعتر البرّي المقطّع، واللوز «العوجا» و«الأكيدنيا» وفاكهة الربيع الحقيقي.

الحياة في الدائرة الصغيرة

أوقات الليل تعني أن ترتجف الأرض تحتك من شدّة القصف المدفعي العنيف من قاسيون ومطار المزّة العسكري باتجاه مناطق عمليّات الجيش في جنوب المدينة وشرقها وشمالها. حتى وأنت داخل سيارة الأجرة، تشعر بالاهتزاز. تعطّل عدّاد السيارة لأسباب أخرى، منها الغلاء. كل عداد سيارة أجرة تعطل على الأرجح. السائق يذكّرك بأي لبناني تقليدي، «من وين من لبنان؟». ينتظرك لتدلي بدلوك السياسي، لا مكان للحياد في عُرفه. هو لا يخبئ صورة الرئيس السوري بشار الأسد الصغيرة على زجاج سيارته الأمامي، وأنت عليك أن لا تخجل. حسناً، طفح الكيل، يبدأ السائق بتعداد جرائم المسلّحين، «على مدخل هذا النفق الذي تمرّ به الآن، انفجرت عبوة ناسفة، الحمد الله لم تقتل أحداً... هنا انفجرت سيّارة مفخخة، انظر إلى مقهى «الهوم كافيه» (على رصيف المسلك الشرقي لأوتوستراد المزّة)، لا تزال آثار التفجير على المبنى». لن يأخذك السائق أبعد من دائرة المدينة الآمنة. إلى الجنوب، تشتعل مدينة داريا وقربها المعضميّة مع عنفٍ غير مسبوق وقصف مركّز وعنيف للجيش على ما بقي منها تحت سيطرة المعارضة المسلّحة، بالإضافة إلى الحصار المحكم على مخارج ومداخل الحجر الأسود وبابيلا وييلدا ومخيّم اليرموك. من المتحلّق الجنوبي إلى الغوطة الشرقية، تتوقّف المدينة عن الحياة.

قناص اليرموك

أوتوستراد الأربعين أو طريق الموت قرب المعضمية، تسمع أخباره من بعيد. «البطل» هناك قنّاص. قنّاص برزة «بطل» آخر. القناص «البطل» على معيار أبطال هوليوود، يقتل من يشاء، يقتل الجميع طوال مدّة الفيلم، من دون هويّة، ومن دون سبب، وعلى الأغلب لا يموت في النهاية، وتقبّله حبيبته، فهو البطل. القناص في سوريا الجديدة هو مرحلة ما بعد استرداد الجيش مساحة من سيطرة المسلّحين. قبل انسحاب المسلّحين، يزرعون قاتلاً محترفاً في منطقة مستترة جيّداً ثمّ يرحلون. يبدأ عدّاد الضحايا، جندي في الجيش، امرأة عجوز، مراهق، مراهقة، هرّة، كلب، كل ما يوحي بالحياة. القنّاص تعنيه الحصيلة فحسب. تخيّل، أن رجلاً واحداً لديه بندقيّة حديثة أتته هديّة من بلجيكا أو فرنسا أو زوّدته بها السعودية أو قطر، أو ربّما غنمها من الجيش السوري، يستطيع القضاء على أحلام، على ناصية طريق. قنّاص مخيّم اليرموك رواية أخرى. يحاصر الجيش السوري المخيّم منذ أشهر، لا نيّة لاقتحام المخيّم، بل العمل على استنزاف المسلحّين بداخله. على حواجز الجيش، كل فرد داخل إلى المخيّم يحق له بحمل رغيف خبز، ليس أكثر، الطحين ممنوع، الخميرة ممنوعة، ممنوع كل ما يساعد المسلحين على الصمود، والأهالي على الحياة يوم بيوم. المخيّم شارعان رئيسيّان، اليرموك وفلسطين، يحكمهما القنّاصة، قنّاصة الجيش وقنّاصة جبهة النصرة وحلفائها. قبل فترة قصيرة، أطلق قنّاصٌ رصاصة واحدة على رأس شاب فلسطيني عائد إلى بيته من دمشق، وفي يديه كيس بداخله خبز وملح وأشياء أخرى من الحاجيات النادرة في زمن الحصار. رصاصة واحدة تكفي للموت، ورصاصات كثيرة أخرى لا تُشبع الحقد. مزّق القناص جسد الشاب الممدّد على الأرض برصاصاتٍ كثيرة. لعن الله الملل. على كلّ حال، القنّاص أرحم من «الذبّيح ». دمشق لم تختبر حرب السكاكين كثيراً. السكّين أقسى من السيّارة المفخخة. السّيارة المفخخة لا تميّز في القتل، ولا تقتل طفلاً أمام أمه، بل تقتلهما معاً في الوقت نفسه. قبل أيام، هاجم مسلّحون على طريق برزة حافلة لنقل الركاب من ضاحية عشّ الورور. بين الركّاب امرأة وطفلها. ذُبح الطفل أمام عيني أمّه قبل أن يحزّ السكين عُنقها. ذبحت الأم مرتّين، ودمشق مراتٍ ومرّات.
في دمشق، تُدرك كيف يختصر السوريون أحلامهم إلى قارورة غاز، وربطة خبز، ويومٌ واحدٌ من دون موت. في دمشق، تتعلّم كيف تجبل المدن العتيقة الألم بالأمل.