ريف القصير | «لن تقاوم عين التنور أكثر من 24 ساعة تحت ضرباتنا»، عبارة قالها أحد عناصر اللجان الشعبية المرابطة في قرى الرضوانية وسقرجة. لم يكن مجرد تنبّؤ، إذ بَدَتْ نظراته ثابتة موحيةً بالثقة. السير إلى المنطقة، التي لم يعلنها الجيش السوري آمنة بعد، يتطلب صبراً في التعرّف إلى طريق الوجهة المقصودة في ريف القصير التابع لمحافظة حمص، والذي تتشابه قراه في الطبيعة الساحرة والخدمات الفقيرة على حدّ سواء.
قرية الناعم هي المحطة الأولى في الرحلة الخطرة. لا مشكلة لدى قائد مجموعة الدفاع الوطني في الحديث بشفافية مطلقة إلى الإعلام، كما لا مشكلة لدى العناصر أيضاً في التقاط الصور لهم. يبدو عناصر جيش الدفاع الوطني الأكثر اندفاعاً بين جميع التشكيلات العسكرية التي ظهرت في سوريا. معظمهم من قرى المنطقة، حملوا السلاح، كما يقولون، كي يدافعوا عن عائلاتهم من الثورة «التكفيرية». يرفض قائد المجموعة الاتهامات لجيش الدفاع الوطني بالطائفية، مشيراً إلى بعض العناصر الموجودين من حوله الذين يمثلون أبناء جميع القرى المجاورة من كلّ الطوائف، والمساهمين في تشكيل هذا الجيش الرديف للجيش السوري. لا تتوافق الملامح الطيّبة للرجل مع الشدّة التي تُعرف عنه، ويتحدث بنفسه عنها. ما يميّز عناصر الدفاع الوطني عن الجيش السوري هو اعتمادهم حرب العصابات التي اعتمدتها عناصر المعارضة أسلوباً في القتال، معتبراً أنّ كتائب جيش الدفاع الوطني لا تنتظر أيّ روتين وإجراءات أو أوامر في التفاصيل الصغيرة، بل لدى قادتها القدرة على التصرّف في الظروف الحرجة واتخاذ القرار. والمفاجأة أنّ قائد المجموعة، ذاته، الشهير في المنطقة، ليس إلا شخصاً مدنياً. وإذ لا يمكن بعد كل الاتهامات التي طاولت كتائب هذا الجيش ألا يُسأل قائد المجموعة عن صحّة تدريب كوادره في إيران، يستبدل الرجل الإجابة بالسخرية من الإشاعات الكثيرة التي تطلق كل يوم، وليس الهدف منها إلا ضرب منجزات المقاتلين على الأرض.

مقاتلو ريف القصير المؤيدون

المحطة التالية في تلّ النبي مندو وقادش، حيث يمتدّ الخراب مخيماً على كلّ شيء، وصولاً إلى قسم شرطة قادش الذي لم يبقَ منه سوى الركام. أحد عناصر جيش الدفاع الوطني يشير، دون سؤال، إلى منزل قريب يبدو كأن سقفه هبط أفقياً كما هو على رؤوس ساكنيه، ويقول: «هذا بيتي. فخّخوه». يأتي السؤال عن عائلته، فيؤكد قائلاً: «لقد هجّرونا من القرية». وكما يتذرّع مقاتلو المعارضة السوريون بأنّ قوات النظام هجّرتهم من بيوتهم وقصفت مناطقهم، ما اضطرهم إلى حمل السلاح والعودة لقتال «كتائب الأسد»، يعود مؤيدو النظام من سكان مناطق أُخرى إلى قراهم التي تمّ تهجيرهم منها باسم الثورة، يحملون السلاح أيضاً ويقاتلون إلى جانب الجيش.

قرب مدخل قرية الرضوانية تجد أراضي مزروعة بالقمح أو بالذرة، إذ لا يزال بعض المزارعين في ريف حمص يعتمدون على مهنتهم المقدسة، فيما تخلى عنها آخرون ممن رأوا في الحرب القائمة فرصة للارتزاق بطرق مشروعة أو غير مشروعة، حيث للحرب شرائعها الخاصة. هُنا يتمنى المرء التقاط صورة تذكارية، يتبادر إلى الذهن أنها قد تكون الأخيرة فيما لو شرَع العقل في تخيّل شراسة المعارك على خطوط النار الأخيرة في قرية عين التنور قبل بلدة القصير المسيطر عليها من قبل المعارضة المسلحة. «فيلا اللواء» هكذا يقول أحد الجنود، مشيراً إلى منزل في القرية، نسبة إلى صاحبه اللواء المتقاعد. تمّت السيطرة على «الفيلا» حديثاً، إذ ما زالت العبوات الناسفة مزروعة حولها وفي بعض أجزائها. وما ان قام عناصر الهندسة بتفكيك العبوة، حتى بدأ الجنود بإفراغ المنزل ممّا فيه من أسلحة ومعدّات كان يستخدمها مسلّحو المعارضة. منصّة لإطلاق الصواريخ تمّ وضعها بين أقدام المقاتلين، وبدأ الجميع يلتقط الصور لها. بعض الجنود هُنا يتحدثون بلهجة قريبة إلى اللهجة اللبنانية، إذ إنّ قرية زيتا الحدودية أضحت قريبة، ما يعني الاقتراب من مسرح الشائعات والأقاويل التي تُطلَق حول اشتراك مقاتلي حزب الله في المعارك الدائرة في ريف القصير، باعتبار الأكثرية الطائفية للقرية توحي بمثل هذا التورّط بالنسبة إلى صفحات المعارضة. السؤال لأحد المقاتلين عن منطقته الأصلية، يجيب: زيتا. عنصر آخر يجيب: البرهانية، وهكذا. «تتحدث بلهجة لبنانية»، يجيب الجندي: «انتِ الآن قرب الحدود اللبنانية، جميع الأهالي يتحدثون بمثل لهجتي هُنا. إنها تختلف عن اللهجة اللبنانية. هي لهجة أهالي المنطقة». سؤال تقليدي عن أقاربه في لبنان، سيجيب: «بالتأكيد. معظم أقاربي في لبنان». الخروج من المكان يتطلب قيادة السيارة بسرعة قصوى مسافة تقارب 500 متر، إذ إنّ القناص في مكان ما قريب.

آثار المعارك الأخيرة

السؤال الوحيد الذي يتبادر إلى الذهن في قرية البرهانية، بعد الهرب من طريق القناص، هو عن هوية الأشخاص المقاتلين. في البرهانية تبدأ خطوط حرب العصابات القائمة لفتح الطريق إلى القصير. الأشخاص هُنا يوحون بأنهم من المهمات الخاصة، لكن يتبيّن لاحقاً أنهم من أهالي المنطقة. يعرفون المخارج والمداخل بدقة، يفصّلون المزارع وأصحابها. المرور من بعض البيوت يفضي إلى الكثير من التساؤلات؛ فملابس نسائية لا تزال معلّقة على حبال الغسيل. سؤال لأحد العناصر بارتياب: «لماذا هذه الملابس هُنا لمدنيين معلقة على حبال الغسيل؟». يجيب: «بعضهم استقروا في هذه المنازل مع نسائهم». للوهلة الأولى يمكن الشك في هذا الكلام، فأين النساء والعائلات إذاً؟ ما نراه بعد قليل من أنفاق متدرجة محفورة بانتظام خلف كل منزل، لوصل المنازل بعضها ببعض، وربطها ببعض الخنادق القريبة، يقلب السؤال: ماذا كانت تفعل النساء هُنا؟ وحدات من الهندسة كانت تشرع في تفخيخ أحد الأنفاق، «لماذا؟».
يأتي الجواب مقتضباً وحازماً: «التكتيك اليوم تغيّر. نحن ننسف تحصينهم هذا، كي لا يعودوا إلى المنطقة بعد خروجنا ويستفيدوا منه مجدداً، كما جرى سابقاً في مناطق أُخرى». الانفجار الذي تجاهد للابتعاد عنه، قد يحملك من مكانك أو قد يرميك بحجارة كبيرة من بعيد، حتى يغطي الدخان كل شيء، لتتبيّن لاحقاً أنك ما زلت على قيد الحياة بعد زوال الدخان الأبيض ورؤية ملامح الجنود المبتسمين أمام خوفك.

لا شيعة بعد اليوم

في سقرجة تظهر بوضوح دقة العمل لدى المقاتلين، وتتبادر إلى الذهن جملة الجندي الذي بدا متأكداً من أن عين التنور لن تصمد أكثر من 24 ساعة. برك من الدماء تثير الخوف في النفس وتجبرك على تفاديها، ونقاط دم على حذاء أحد الجنود. تعجز عن السؤال: «دماء من هذه!». قد تكون دماء رفيق سلاحه، أو عدوّ قتَله. الاحتمالان حاصلان، وهُنا تكتشف عدم جدوى بعض الأسئلة وقلة تأثيرها، ولا سيما أمام جدّية ملامح المحاربين. وفي الطريق إلى قلب الاشتباكات العنيفة الدائرة، يظهر معمل لتصنيع الصواريخ يدوياً، مملوء بأسمدة صُنعت في الجمهورية العربية السورية، إضافة إلى مواد مستوردة. أمام المعمل جدار أسمنتي كُتِب عليه: «حرية. لا شيعة بعد اليوم». تتدافع الأسئلة إلى العقل: «هل هذا حقاً جوهر الصراع الداخلي؟». من جديد، المزيد من الجري بين المنازل التي ينطلق منها الدخان حديثاً، هرباً من قناص المعركة التالية.
تفصل محطة ضخّ مياه عين التنور بين الطرفين المتقاتلين، قبل أن يسيطر عليها النظام. وراء سور حجري عالٍ يقف عناصر اللجان الشعبية بمؤازرة كاملة من الجيش السوري. وعبر فتحات صغيرة يدخل منها المقاتل سلاحه، تمطر ناراً على الطرف الآخر في عين التنور. بعد البحيرة الصغيرة المكشوفة لرصاص القناص المعارض تقف دبابة للجيش السوري. بضعة مئات من الأمتار فقط تفصل الدبابة عن عنصرين من الجيش السوري يؤمنان المنطقة، ويعلنان تقدّماً بسيطاً لكن حذراً. فللقناص وحده الغلبة ضمن هذه المساحة الطبيعية الشاسعة والمكشوفة. آثار قذائف على السور الحجري تفتح أجزاءً منه، ما يعني صعوبة التحرك، وضرورة المرور ركضاً أسفل الفتحة، حيث محاولة رفع الرأس تعني الموت. هُنا الرصاص يشتعل بجنون، والمعارك حامية الوطيس، ووجود مدنيين يربك المقاتلين الذين يستمرون بالصراخ طول الوقت: «أخفضي رأسكِ»، أو «ابقي بمحاذاة الحائط». وإن حاولت مغافلة المحاربين والنظر باتجاه خط النار المقابل، ستتساءل: «ماذا خلف هذا السور؟»، سيأتيك جواب جندي بجانبك: «إنها القصير. أخفضي رأسكِ».
في رحلة العودة، سؤال وحيد يلوح في ذهنك: «متى تتوقعون دخول القصير؟». والجواب يأتي واثقاً: «لا يؤخرنا إلا أوامر القيادة في دمشق». لكن لعلّ اكتمال السيطرة على قرى غرب حوض العاصي، بعد وصول المقاتلين إلى الطوق الأول في القصير، بعد إحكام السيطرة على قريتي أبو حوري والنهرية، يوحي بما تفكّر فيه القيادة في دمشق والقرار الذي تمّ اتخاذه ويعمل الجنود على تطبيقه.

من أصحاب الإنجاز؟

إطلاق الصواريخ والقذائف من القصير على الحدود اللبنانية فتح الباب أمام الكثير من التساؤلات بشأن حقيقة تورط حزب الله اللبناني في معارك الأرض السورية. وفي دراسة ميدانية بسيطة، يمكن استنتاج أن الكثير من المشاركين في حرب العصابات التي تجري الآن نالوا تدريبات احترافية أدت إلى تحقيق إنجازات على الأرض فاقت عمل الجيش النظامي والقوى الأمنية طوال سنتين. لكن في الوقت ذاته، يبدو بوضوح تمكن هؤلاء المقاتلين من معرفة المنطقة وطبيعتها الجغرافية والسكانية بشكل جيد، بعكس ما يروّج له بعض المعارضين. وعدم وجود مدنيين من الأهالي في المنطقة يعزوه بعض الجنود إلى إخراجهم عائلاتهم بعيداً عن مسرح المعارك، فيما قد يرد أحدهم على السؤال عن عناصر لحزب الله (غير سورية) تشارك معهم في القتال: «لو توجهين السؤال إلى عناصر جبهة النصرة (السوريين)».



إحراج «المقاتلين الأجانب»

يعيش السوريون أياماً من انتصارات النظام ميدانياً، لكن يرفض الكثير من الموالين قبل المعارضين تصديق فكرة انخراط حزب الله وتورطه في الاقتتال الداخلي السوري، حيث للمقاومة قداستها في حربها ضد العدو الإسرائيلي وحده. ويرى بعض مؤيدي النظام أن تورط عناصر غير سورية (إيرانية أو لبنانية) إلى جانب الجيش السوري في القتال يلتقي في الجانب نفسه مع مقاتلي المعارضة السورية من جنسيات أُخرى، والذي لطالما حاربوه وقدموا الحجج ضد المعارضة على أساسه. كذلك يرون أن صحّة مثل هذا التورط على الخطوط الأمامية للقتال في المناطق الساخنة يحرجهم كمدافعين عن النظام. ويلتقون مع معارضين للنظام في رفض أي تدخل في الشأن الداخلي السوري، على اعتبار أن المقاومة تخسر شعبيتها من خلال تحيزها لصالح النظام الحاكم في سوريا. أما مؤيدو النظام إجمالاً، فيهللون لتدخل حزب الله في سوريا، ويعزون الانتصار الحاصل على الخطوط الأمامية اليوم إلى هذا التدخل الذي يكثر الحديث عنه، إذ إن حزب الله، بنظرهم، يدافع عن خياره الاستراتيجي في حماية وحدة سوريا.