محمود عباس، هذا الرجل لا يمكن لأحد أن يتنبأ ماذا يدور في رأسه. فبعد المقابلة الشهيرة التي ذكر فيها بأنه يريد فقط رؤية صفد دون العيش فيها، أصبحنا نتوقع منه أي شيء! ومع ذلك كنت أتمنى أن يقوم برد فعل ما، خلال زيارة أوباما الأخيرة إلى رام الله، وخاصة أن «نظيره» الاميركي، لم يوّفر الصفعة تلو الأخرى للرئيس الفلسطيني وللشعب و»الدولة» التي كانت الولايات المتحدة من أشد المعارضين لإعلانها.
فعلاً، محمود عباس هو الرجل الأسطورة، هو من يستحق عن جدارة «جائرة التمسحة العالمية»! هو الرجل الذي ضحى ب65 عاماً وآلآف اللاجئين من أجل خُمس دولة مقطعة الأوصال. هو الرجل الرومنسي الذي يحلم برؤية مدينته فقط من بعيد، ولذلك لم يقرر فقط بأن لا يعود هو إليها، بل أن لا يعود إليها أي كان، ولا حتى إلى غيرها من أراضي فلسطين المحتلة! هو اللاجىء الذي لا يشبه اللاجئين، هو الذي لم يتخذ اي موقف تجاههم في لبنان او في سوريا رغم معاناتهم في البلدين. هو الرجل الذي دعى سفير «دولة» فلسطين لمصالحة اليمين اللبناني وفتح صفحة جديدة معه، هو الذي قرر أن يغلق كل الملفات كما نُقل على لسان السفير السابق، متناسياً حق المئات في معرفة مصير المفقودين منهم على الأقل. محمود عباس، هو ال”One Man Show” الذي لا يمكن أن تتوقع منه شيئا جيدا.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن التاريخ الفلسطيني حافل بخيبات الأمل، ولكن الرئيس الفلسطيني –المنتهية ولايته أصلاً- محمود عباس حمّل هذا التاريخ أكبر خيبة له في غضون سنين ضيئلة. ماذا يمنع الفلسطينيين من النزول إلى الشارع لولا قمع الجهات الأمنية الفلسطينية المتعاونة مع الجهات الأمنية الإسرائيلية بإتفاقيات أصبح الكل يعرفها؟ إذا عدنا بالتاريخ إلى الوراء، قبل رحيل الرئيس ياسر عرفات، سنرى على الأقل حراكاً شعبياً فلسطينياً لا يتردد في النزول إلى الشارع حتى لو ضد قياداته للتعبير عن غضبه ورفضه. فعرفات، وبغض النظر عن كل أخطائه التي قد لا تغتفر بالنسبة للبعض، كان قائداً بإمتياز، صاحب كاريزما يستطيع أن يجعل من ينزل ضده إلى الشارع أن يصبح معه بكلمة. رجلٌ إعتاد أن يخاطب شعبه في كل المناسبات ويشبهه إلى حدٍ كبير. تكاد لا تجد صورة واحدة لعرفات يلبس فيها بدلة رسمية أو ساعة باهظة الثمن، وكأنه كان يقول «إن كان شعبي يعاني من الفقر، فأنا فقيرٌ أيضاً». حتى بعد أوسلو، بقي الشعب الفلسطيني ملتفاً حول ياسر عرفات رغم الخيبة الكبيرة التي أصابته، ولم يتردد في إشعال إنتفاضة ضد العدو، تلك الإنتفاضة التي ما لبثت أن إلتفت القيادة الفلسطينية حولها ليصبح الشعب والقائد «وحدة حال». قد لا يختلف عرفات وعباس كثيراً فيما يتعلق بالسلام مع إسرائيل، ولكن ما يختلفان به هو علاقة كل منهما بشعبه. ورغم كل شيء، بقي عرفات من الشعب وإلى الشعب، ويبقى عباس أبعد ما يكون عنهما.
ياسر عرفات حالة فلسطينية من الصعب أن تتكرر من دون إرادة شعبية، من دون جيل يلتف حول قيادته ويفرض ما يريد عليها. محمود عباس ليس ياسر عرفات، ولا يشبهه في شيء، ولا يمكنه حتى أن يجمع الفلسطينيين على كلمة واحدة أو رأي أوحد. وهذه ليست مشكلة عباس وحده، بل مشكلة شعب أُنهك حتى وصل إلى هذه المرحلة، وأصبح الكثير –دون التعميم طبعاً- يفضل اللجوء إلى المقاهي والحانات بدلاً من النزول إلى الشارع، وخاصة أن خط الصدام الأول في الشارع سيكون مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية قبل الإسرائيلية بعشرات الكيلومترات.
ما نحن بحاجة إليه هو نقدٌ ذاتي قبل كل شيء، والإعتراف أن الحالة الشعبية الفلسطينية لم تعد كما كانت من قبل، والتعويل على إرادة هذا الشعب التي لا تنكسر وإن كانت تعاني من السبات حالياً. ما نحن بحاجة إليه أيضاً هو الإلتفاف حول أنفسنا رغم كل الخلافات التي وُجدت بيننا بسبب القيادات، لأن «المعتّر هو ذاته» في البيرة وغزة واللد والنقب وشاتيلا واليرموك. لأن اللاجيء داخل أراضي السلطة هو نفسه من يعيش تحت الإحتلال في الأراضي المحتلة، هو نفسه ممن أصبح أردنياً وممن يحمل بطاقة زرقاء في لبنان. لأن الأسير من حركة حماس يموت جوعاً وكرامة في سجون الإحتلال تماماً كأسير حركة فتح والجبهة الشعبية. لأن إبن الأربعة عشرة عاماً لم يُسأل عن إنتماءاته الحزبية حين إعتُقل قبل يومين. لأن الجميع من أبناء الشعب يريدون فلسطين بكامل ترابها الوطني حتى ولو كانت قيادته تريد إمارة إسلامية في القطاع أو دولة مشوهة في الضفة أو تُمثل بأحزاب عربية داخل الكنيست الإسرائيلية. ولأن الجميع بحاجة إلى قيادة فلسطينية جامعة للكل، لديها خط واحد من دون الحاجة إلى التنبؤ بمّا يدور في رأسها أو بمصيرنا معها.