عين الحلوة | إنه «قدر» الفلسطيني. وكأنّ لزاماً عليه أنْ يظلّ غبار الرحيل في رئتيْه. هنا لبنان، عتبة جديدة وغربة أخرى. هنا مخيم عين الحلوة. ما زال المخيم يجاهد رغم كلّ الظروف ليفتح قلبه لأبنائه النازحين من مخيمات الشتات. الكثيرون هنا احتضنوا إخوتهم اللاجئين، قدموا لهم المسكن، وما تيسر من أدوات الحياة، بتفاني ما يوجبه حق الأخوّة. لكن، عند البعض الآخر، «اشتغل العدّاد»! أبدعوا في نهش ما تبقى من لحم النازحين. هكذا، بلغت إيجارات السكن مثلاً حوالى 250 ألف ليرة، لبيوت لا تمتلك أدنى مقومات العيش. ربما لا يعني المبلغ شيئاً للبنانيين، ولكن هذه الأسعار باهظة جداً نسبة إلى أحوال هؤلاء المعدمة. لكن، لا شفقة ولا رقيب. أرقام مهولة بالنسبة إلى هؤلاء، وشهر يتلوه شهر وعائلات تعيش تحت وطأة الفقر والقلّة.من منّا نسي محمد الملسي الذي غادر العالم منذ أسابيع بهدوء. هالهُ ما تعرّض له من إهانة على حاجز مخيم عين الحلوة واعتراضه لعدم امتلاكه ما يسمى «تصريحاً بالدخول»، وشعوره بالعجز التام عن تأمين الحياة لأسرته الصغيرة. اختبأ وراء علبة حليب! أخبر زوجته أنه ذاهب لإحضارها لطفلته، فقفز من أبوّته وانفرد بفقره وتعاسته. لف عنقه بشريط من سأم.. وجد الطريق إلى السماء سالكة، فمضى.
وحال الملسي هي حال الآلاف من النازحين. فمنهم من حاول أن يغادر مثله، لكن الموت لم يكن حاسماً معهم.
كانت «كرتونة الإعاشة» عنواناً للفلسطيني. أما الآن فقد مُنح رتبة أخرى بعنوان «فرشة وغطاء»، يا للخجل! مساعدات شحيحة وبليدة لم ترتق حتى إلى أدنى مستوى من الكارثة.
فالأونروا، كمسؤولٍ وحيد عن الفلسطيني في شتاته، قدمت شيئاً لا يذكر، والمساعدات كانت هزيلة جداً ومحدودة. كان لزاماً على وكالة الغوث أن تغيث النازح الفلسطيني ببدل سكن شهري لكل عائلة مع حصة تموينية غذائية شهرية وليس لمرة واحدة. والأهم؟ تغطية طبية لهم أُسوة بالدولة اللبنانية وما منحته للإخوة السوريين من دعم طبي استثنت منه (كالعادة وطبعاً) الفلسطيني النازح من سوريا. هكذا، أصبح متروكاً للمرض والإهمال، لا الدولة أنصفته ولا حتى الأونروا، تُرك يمضي بوحدته. وماذا عن الطلاب النازحين؟ ماذا عن التعليم؟ لم تحاول الأونروا تنظيم المدارس التابعة لها بدواميْن صباحي لطلاب المخيم ومسائي لاستيعاب أبنائنا النازحين لمتابعة تعليمهم، لماذا؟
لكن الخطوة التي كانت الأكثر تخييباً للآمال، فكانت عند توزيع الأونروا بطاقات تموينية تخوّل أصحابها شراء ما يلزمهم بمبلغ معين مرفق بالبطاقة، وهذه الخطوة اقترنت بالتعاقد مع متجرٍ تمويني معين في صيدا، حيث كان التساؤل الأكثر طرحاً عن سبب التعامل مع هذا المتجر تحديداً دون غيره، وهو المعروف بغلاء أسعاره. هكذا، كان على الناس أن يكتشفوا (وعلى حسابهم) الفارق الصارخ بين المبلغ الممنوح والجيد نسبياً وعدد المواد المشتراة القليلة وأسعارها العالية.
نهب شرس للنازحين وتقاعسٌ عن تقديم الخدمات لهم؛ فأوّل العطاء كان مبلغ 40 دولاراً لكلّ شخص، والدفعة الثانية 190 ألف ليرة لكل عائلة و30 ألف ليرة لكلّ شخص، وكان الوعد الأكبر بتثبيت المبلغ الأخير كعطاء شهري وثابت، وظلّ هذا الوعد محض كلام... فلا أموال وصلت ولا مساعدات سُلمت، مع العلم بأنّ هناك مبالغ ضخمة وعدت بها الدول المانحة الأونروا لتباشر الأخيرة توزيعها على النازحين الفلسطينيين من سوريا، ولم يصل حتى الفتات.
وحتى المنظمات الفلسطينية ليست بأحسن حال، فهي تمرُّ أيضاً بأصعب مراحلها المالية، والوضع الاقتصادي سيّّئ. فلا مال لديها لمد يد المساعدة هي الأخرى كما تقول. لكنْ ما أغاظ النازحين وجود مكاتب وقاعات ومبانٍ واسعة وخالية أصلاً تابعة لهذه الفصائل والمنظمات ظنناها موضوعة على الرف لظروف كهذه. لكنها حتى لم تُفتح لإيواء النازحين الذين تتزايد أعدادهم يوماً بعد يوم، وهم لا يملكون شراء ربطة خبز، فهل سيملكون إيجار بيت؟ ما هي الاولوية التي تحتفظ هذه الفصائل بمقارها لها؟ وهل هناك أولوية أبدى من إيواء أهلنا النازحين المعدمي الحال؟
لكن، في المقابل، هناك هيئات ومؤسسات إغاثية خاصة قدمت عوناً، ولو أنه لا يمكن أن يرتقي إلى مستوى فداحة ظروف هؤلاء. فالمؤسسات الإغاثية قاطبة قامت بتقديم فرشات وأغطية من دون أن يكون هناك أدنى تنسيق بينها لتوزيع المساعدات بين أغطيةٍ وطعام وأدوات للتنظيف، ما اضطر أغلب النازحين إلى بيع المساعدات الفائضة عن هذه الحاجة تحديداً، لتأمين المال لشراء الحاجيات الضرورية الأخرى لأبنائهم.
صحيح أن المحاولات الإغاثية كانت أفضل من سابقاتها، ولكنّها تبقى محاولات. والمطلوب تكثيف الجهود وتنظيمها لتكون التقديمات شهرية تسد حاجة الناس. فتلك العائلات التي وصلت بها الحال إلى هذا الحد من العوز، كانت ملاذاً لكل من ضاقت بهم الدنيا، وها هم يجدون أنفسهم يُنظر إليهم كأنهم مصابون بالجرب.
ألم يكف هؤلاء هذا الرحيل من لجوء إلى آخر ومن مخيم الى مخيم؟ لم يستطيعوا حتى كتابة وصايا قلوبهم المتخمة بالطرق على أبواب بيوتهم التي غادروها، وافتقدوا طعم الحلم في القلب. تعبوا من مدّ ذراعهم لحمل أكياس الطحين والسكر، وينتظرون نمو أعشابهم مجدداًً بين مفاصل كل النواهي.



أصبح مخيم عين الحلوة مأوى لمئات الفلسطينيين الفارين من دوامة العنف في سوريا. لكن هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين تعيّن على كثيرين منهم نصب خيامهم بأنفسهم وإيجاد وسائل لتوصيل الكهرباء والماء لها. وكانت سوريا تستضيف زهاء نصف مليون لاجئ فلسطيني ثلثهم كان يقيم في مخيم اليرموك بدمشق. وقد قال أحدهم «أقسم بالله كنا معززين مكرمين بسوريا».
وفي مسعى لتحسين أوضاعهم المعيشية، أضربت مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين عن الطعام لثلاثة ايام أمام مقر وكالة الأنروا في بيروت حيث يستمر اعتصامهم حتى اليوم.