منذ انفرط العقد بين الفرقاء في الثورة المصرية، وبات الجميع يصطف في معركة باتت أشبه بحرب الكل ضد الكل. ومع استشراء الاستقطاب على خلفيات سياسية وأيديولوجية وطبقية ودينية، أصبح التربص سمة أساسية في المجتمع زادت مع انتشار استخدام أدوات التواصل الاجتماعي في ذلك العالم الافتراضي الذي لا يعلم أحد من يحرك خيوطه. فهناك آلاف الحسابات والصفحات التي لا يعلم أحد تحديداً هويتها سواء جهات أمنية أو مخابراتية أو لجان إلكترونية وغيرها، يُضاف إلى ذلك وسائل الإعلام التقليدية التي باتت أشبه بمشعل النار لكل طرف. كما أن البيانات أو الصور أو المقاطع المصورة أو الأخبار المنشورة جميعها يمكن توظيفها لصالح كل قضية ولكل موقف دون أي تدقيق.
أحداث الكاتدرائية العباسية ،التي اندلعت بعد أحداث الخصوص، حملت شواهد كاشفة لمدى حالة الاستقطاب التي يعيشها الشارع المصري، وآخرها ما جرى أمس عندما انتشر شريط مصور يحمل في مضمونه واقعة لمحاولة تعدي وتحرش أشخاص بفتاة قالوا إنها مسيحية، أثناء تكبيرهم وتهليلهم. وهو الشريط الذي حمل عناوين لافتة كثيرة. البعض نسبه لإسلاميين والبعض الآخر زعم أنه في عهد الرئيس محمد مرسي، في حين أن الشريط وبعد التدقيق تبين أنه يعود لواقعة في أحداث فرشوط الطائفية عام 2009 / 2010، وهو ما يعني أن الكل تغافل عن الجريمة نفسها واستخدم الشريط من دون تدقيق لتصفية حسابات سياسية واتهام أطراف بعينها.
لكن هذا «الفخ» الذي جرى الوقوع فيه لم يكن الوحيد الذي سجل في الأيام الماضية. فعلى وقع الاشتباكات، في محيط الكاتدرائية تم تداول نفس الصور والمقاطع المصورة، على الصفحات المتناحرة بوصفها تدين الطرف الآخر لدرجة نشر شريط مصور خارج مصر، وفيه اتهامان، الأول لحركة حازمون والآخر للمسيحيين المصريين بأن كليهما يوزع الأسلحة.
ورغم أن الشريط يمكن التأكد من عدم صحته في لحظات، إلا أن العشرات تداولوه من دون وعي وكأنه حقيقة جازمة.
هذا الاستناد غير الواعي إلى نفس الدليل لإدانة الطرف الآخر، يكشف عن غياب تام للوعي أو تشوه الإدراك لدى الكثير من الأطراف التي باتت عقولها تستند إلى ما يصادف هوى نفسها. وهو أمر يمكن ارجاعه إلى 3 أشياء جوهرية وهي: الوقوع في فخ «القابلية» وتجاهل «السياق» وفساد «الاستشهاد».

فخ القابلية

فالوقوع في فخ القابلية، يظهر في «تقبّل الشخص تصديق أمر ما لمجرد أنه صادف هوى في نفسه دون أن يُعمل عقله أو يستند إلى أدلة، بحيث يكون مهيأ للتصديق دون شك أو تدقيق». وهو ما ظهر جلياً في نشر صفحة «إحنا إخوان إعرفنا صح» لصورة أخذت في آب/ أغسطس الماضي وتم نشرها على أنها صورة لبلطجي في بور سيعد. وهو ما تكرر من نشطاء ضد الإخوان حينما تبنوا خبراً نفته وزارة الداخلية حول تهريب بزّات شرطة للإخوان، ليتداولوه من موقع صحيفة تابعة لفلول الحزب الوطني كانت تسبهم قبلها بيومين.

السياق

تتجلى الحرب الإعلامية في تجاهل السياق، بما يعني من «تجاهل الوقائع والظروف المحيطة بأي فعل التي تجري الواقعة فيها»، مثلما برر كل من الإخوان والقوى الثورية في موقفين مختلفين تسببهما في العنف. ففي جمعة «كشف الحساب»، التي نظمت في 14 تشرين الأول/أكتوبر 2012، نزل الإخوان ميدان التحرير مع علمهم بوجود متظاهرين مناهضين لهم فيه، ما أدى إلى اشتباكات هي الأولى في الصدام بين المتظاهرين والإخوان، وتم حرق أحد أتوبيسات الإخوان.
كما برر الإخوان نزولهم في ذلك اليوم غافلين سياق الأحداث، بينما اقتحمت القوى الثورية يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2012 مقار الإخوان بالإسكندرية بعدما اشتبكت مع إسلاميين في مسجد القائد إبراهيم، كانوا من الجهاديين والجماعة الإسلامية في أغلبهم، غافلةً أيضاً عن سياق الأحداث. وفي الأخير يقف الرأي العام حائراً في سماع تبرير كل طرف لفعلته على خطئها لاقتطاع السياق عند ذكرها. وهو ما يؤسس لأمر خطير يتمثل في إصدار أحكام غير ذات صلة تماماً بالواقع أو الملابسات التي تدور حوله الأحداث. وبالتالي تكون غالبية الأحكام متطرفة بالإيجاب أو السلب، وتجعل المرتبط بالواقعة إما ملاكاً أو شيطاناً، ونادراً ما يكون التوصيف صحيحاً ومناسباً للواقعة.

فساد الاستشهاد

فساد الاستشهاد هو ما يعني أن تُستخدم واقعة حقيقية للاستدلال على شيء لا يرتبط بها أو غير معبر عنها، وهو من أهم أسباب الاستقطاب الحالية، ومن أكثر الأمور التي تكشف التربص أو سوء التقدير، فضلاً عن حجم الازدواجية التي باتت لدى كل الأطراف. فالكل في دفاعه يتحدث عن بعض الأمور بكونها لا تصلح دليلاً على أمر معين، لكنهم بكل أريحية يتجاهلون كل هذا حين يتعلق الشأن بخصم لهم أو غريم له.
الكاتبة الصحافية سارة خورشيد، رصدت هذا الأمر، وقالت لـ«الأخبار» إن قطبي الحكم والمعارضة في مصر لم يعودا يتحريان الدقة في استخدام الألفاظ، مستشهدة في ذلك بمذيعة قناة «أون تي في» المحسوبة على المعارضة، حينما قالت «يا نقبل بإفشال وإسقاط وإحراق الدولة المصرية يا نأخذ موقف». وكذلك مواقف مذيعي قناة «مصر 25»، التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، ومواقعهم التي لا تتحدث إلا عن إنجازات للرئيس والوزارة.
وفيما أوضحت خورشيد أنه «لا مانع من أن تنحاز أي مؤسسة إعلامية أو أي طرف، فهذا أمر لا مفر منه»، شددت على وجوب عدم «اهانة ذكاء المشاهد، أو المبالغة لدرجة تتجاوز المنطق لأنه بهذا لن يصدق أحد ما تقول ولن تستطيع أن تكسب أحد من المخالفين في صفك». ورأت أن «الواقع بات يحمل تحيزات بفجاجة، وإدخال الرأي في الخبر وهو ما يعني تعمد التشويش والتضليل».
من جهته، استشهد الصحافي عبد الرحمن مصطفى بقضية الشاب كريم بسكوتة، الذي انتشرت صور قيل إنها تعود له، أول من امس، خلال اشتباكات الكاتدرائية وتمت مقارنتها مع صور من أحداث العباسية عام 2012، التي يتهم فيها بالقتل واستخدام العنف. وأضاف «لم يكن هو الشخص الموجود فوق سور الكنيسة، ليس فقط لأن الصورة مختلفة ولكن لأنه لم ينزل ذلك اليوم»، مشيراً إلى أن الوضع أصبح مزرياً، فغالبية المقاطع المصورة والصور إما قديمة أو تحريضية، مبيناً أن «مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت سيئة كالإعلام التلقيدي».