عمان | ينظر متابعون بعين الريبة إلى تراجع دور المخابرات العامة في الجامعات الأردنية، أخيراً، بعد تأسيسها ميليشيات عشائرية أدخلت الطلبة في دائرة عنف لا تتوقف، وتحكّمها المباشر في تعيين رؤساء الجامعات والأساتذة والموظفين، ودعمها المتواصل لهم وحماية فسادهم وجعلهم وزراء، رغم فصلهم من الوظيفة في مرات عديدة. أحداث العنف التي وقعت في جامعة مؤتة، جنوب الأردن، الأسبوع الفائت، بدت مريعة عقب دخول قوات الدرك لفض مشاجرة عشائرية نشبت قبل إعلان نتائج انتخابات اتحاد الطلبة، التي تقررها الأجهزة الأمنية سلفاً منذ عشرين عاماً. وهو ما أدى إلى استشهاد طالب في سنة تخرجه خنقاً بالغاز المسيل للدموع، وعلى أثرها أحرقت عشيرته المراكز الأمنية في ثلاث محافظات يسكنها أبناء العشيرة. تسجّل الاحصائيات أكثر من سبعين مشاجرة تشهدها الجامعات في العام الواحد. وتشير الدراسات والتقارير إلى أسباب عديدة وراء هذا العنف المتزايد، تتعلق بمستوى التعليم ومعايير القبول الجامعي والتحولات الاقتصادية والاجتماعية. لكن المسؤول الأول عن خلق هذه البيئة المشبعة بالكراهية والعدوانية وإدارتها كان دائرة المخابرات العامة بدعم من القصر، بدءاً من العام 1989، وما سمي حينها عودة الحياة الديموقراطية.
منذ اللحظة الأولى التي اعترف فيها النظام بالأحزاب ـــ عقب 30 عاماً من حظرها ـــ انطلقت يد الأمن عبر إنشاء تيار واسع أُطلق عليه التجمع الوطني الطلابي الأردني (وطن) عام 1991، منافساً لتيار موازٍ يتبع للإخوان المسلمين كان مسيطراً على المجالس الطلابية. خلال أعوام قليلة، بسط التيار الجديد نفوذه من خلال تعبئة أبناء العشائر ضد الإسلاميين على أسس إقليمية وعنصرية، والتهديد بقطع المنح الدراسية التي يوفرها لأبناء العسكريين والموظفين أو الترغيب في الحصول على وظائف عليا، وربما كان اختيار وزير الإعلام الجديد، محمد المومني، مثالاً جيداً بوصفه أحد نشطاء تيار «وطن».
مع بداية الألفية الثالثة، دخل الأردن عصر دولة المخابرات، مع قدوم الملك الشاب، ولم يتوقف دور الأمن عند تفريغ الحياة السياسية من الأحزاب، بل تكرّس عبر خلق طبقة جديدة من المسؤولين.
لم تكترث المؤسسة الأمنية لانفراط حزبها الطلابي «وطن»، بل دعمت عشيرة أو فئة ضد أخرى. وفي الأثناء قامت المخابرات بسطو مسلح على جميع إدارات الجامعات، فقضت على استقلاليتها، ووصل الاستقواء الأمني والرسمي والعشائري إلى درجات غير مسبوقة، سواء في التحكم في التعيينات أو خرق معايير القبول الجامعي، وكذلك الأمر بإرسال البعثات العلمية إلى الخارج.
استطاع الأمن فرض سيطرة متكاملة، وحاصر الطلبة بنشاطات غير منهجية تمجد مؤسسة العرش، وحرضهم ضد بعضهم بعضاً وفق أصولهم ومنابتهم، لتقاس وطنيتهم بدرجة ولائهم للملك وقربهم من جهاز المخابرات. ويرى دارسون أن هذا النهج عمّق أزمة الدولة والمجتمع وأدى إلى تراجع الكفاءة العامة لمؤسسات النظام.
ونتيجة ظهور قيادات جديدة موالية بالكامل لدائرة المخابرات، سادت موجة فساد إداري ومالي في جميع الجامعات الأردنية طوال العقد الفائت. وتجلى الاستقواء الأمني بتعيين أساتذة ومسؤولين جامعيين مفصولين لإهمال وظيفي أو اختلاسات أو لسرقة أبحاث علمية في مناصب حكومية، وخلال فترة قياسية جرى إضعاف الجهاز البيروقراطي والقضاء على انضباطيته وصرامته المعهودتين، وحلّت ثقافة العشيرة، المدعومة أمنياً، بديلاً للقانون وانهارت هيبة الدولة تدريجياً.
تتعالى أصوات هنا وهناك، في الآونة الأخيرة، تنادي بوقف التدخل الأمني في الجامعات الحكومية، وكان آخرها احتجاج مجموعة من الطلبة لدى الملك أثناء زيارته إلى الجامعة الأردنية. وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرار يقضي بإغلاق جميع مكاتب دائرة المخابرات العامة الموجودة في الجامعات الحكومية والخاصة كافةً. لكن القرار ظل حبراً على ورق، وتواصل عمل هذه المكاتب ـــ الذي يخالف الأنظمة ـــ والمتمثل في مراقبة الأنشطة والانتخابات واستدعاء الطلبة والتحقيق معهم عند الضرورة. انحسار دور المخابرات منذ منتصف 2012 لمصلحة مؤسسة القصر، ينبئ بمرحلة خطيرة من العنف المجتمعي، إذ لم يعد مهماً أن يظهر هذا الدور في العلن، ما دامت العقلية الأمنية هي التي تسير الدولة ومؤسساتها، والجامعات مجرد نموذج مصغر لعجز النظام وفشله.