قبل عشر سنوات، كانت شؤون السياسة الخارجية في إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، خاضعةً لسيطرة حركة أطلق عليها اسم «المحافظون الجدد» (وهي لم تكن في الواقع جديدةً ولا محافظةً). وقبل فترة وجيزة من بدء عمليات القصف ضمن استراتيجية «الصدمة والترويع» التي أطلقت شرارة الحرب في العراق، حاولت أن استكشف نظرية المحافظين الجدد في مقال نشر في الصفحة الأولى من صحيفة ستريب (ستار تريبيون) وجاء فيه الآتي: ترى مجموعة مؤثّرة من المفكرين في مجال السياسة الخارجية أن الإطاحة المحتملة لصدّام حسين (الرئيس العراقي الراحل) في القريب العاجل، خطوة أولى في إطار خطّة طموحة لنشر الديموقراطية في العالم والقضاء على التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب من التفكير سبق اعتداءات 11 أيلول في وقت طويل، إلا أن العديد من المحللين في شؤون السياسة الخارجية يرون أن تأثير هؤلاء الاستراتيجيين، الذين يعرفون باسم «المحافظون الجدد» تزايد بعد الهجوم.
يدّعي الناقدون أن أفكار المحافظين الجدد، بما فيها «تغيير الأنظمة»، ما هي إلا وصفات لحروب مستمرة، بما أنها تقود الولايات المتحدة إلى العديد من المواجهات؛ إذ توجد لائحة طويلة من الأنظمة التي يتعين تغييرها.
لكن المحافظين الجدد أنفسهم ومؤيديهم يقولون إن أمام الولايات المتحدة فرصةً تاريخيةً لإعادة تشكيل العالم، ما سيجعل بلادنا أكثر أمناً وبقية العالم أكثر حريةً. إلا أن المحافظين الجدد الذين يطلقون على أنفسهم أحياناً اسم «الريغانيون الجدد» تيمناً بالرئيس الراحل رونالد ريغان، يقولون إن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه حركتهم ليس الحرب المستمرة، بل «الوضوح الأخلاقي المدعوم بقوّة عسكرية».
شارك عضو الكونغرس السابق في ولاية مينيسوتا، فين ويبر، الذي بات من الضالعين في السياسة الأميركية، في توقيع عدد من البيانات العلنية الخاصة بالمحافظين الجدد. يقول إنها تهدف إلى استخدام قوّة الولايات المتحدة لتحقيق الخير. يضيف ويبر: «أعتقد أننا قمنا ببعض الخير في الولايات المتحدة»، مضيفاً: «أعتقد أننا سنحقق الخير في العراق، وأظنّ أنه تتوافر فرص أخرى للقيام بالخير أيضاً».
وعلى مرّ العقد الماضي، أصرّ المحافظون الجدد على أن على الولايات المتحدة أن تتحدى أنظمة شريرة في الشرق الأوسط وآسيا، لنشر الحرية والديموقراطية والرأسمالية. في ابتعاد عن سياسات الحرب الباردة القائمة على الردع والاحتواء، بالإضافة إلى التخفيف من شأن معاهدات قديمة أو تحالفات تعوق تحقيق هذه الأهداف. فبدل السعي إلى إدارة المشاكل والتهديدات أو احتوائها، يريد المحافظون الجدد استغلال فرصة السيطرة الأميركية للقضاء على تلك التهديدات من أساسها.
في المقال، أشرت إلى نائب الرئيس السابق والتر مونديل، الذي شكك في رؤية المحافظين الجدد، ووصفهم بالإمبرياليين الديموقراطيين، فقال: «إنهم يؤمنون بأنه بالقوّة الأميركية، يمكن القيام بأمور عظيمة لتغيير العالم. ولكنني أشكك بجدية في ما إذا احتسبوا جيداً تكلفة بعض من هذه المشاريع». وأضاف مونديل أنه سيكون من الرائع تحويل العراق إلى ديموقراطية تنتج موجةً من الإصلاح في الشرق الأوسط، كما يطمح له المحافظون الجدد. لكنه شدد على أن الكراهية العميقة المتفجرة بين المجموعات السكانية في العراق، بالإضافة إلى غيرها من التعقيدات، تثير تساؤلات عمّا إذا كان المحافظون الجدد قد قدّروا بدقّة مدّة الاحتلال الأميركي، والتكلفة التي ستترتب على الخزانة الأميركية وفرص النجاح.

كيف يبدو الوضع لويبير الآن؟

الأسبوع الماضي اتصلت بصديقي فين ويبر، الذي غالباً ما قدّم وجهة نظر جمهورية متحضرة ومعمّقة للصحافيين الذين يحتاجون إليها. سألته كيف تبدو له تلك الأفكار والاندفاعات الآن بعد مرور 10 سنوات، وبعد تجربة الحرب في العراق. بدأ الإجابة قائلاً: «بالتأكيد كنت لا أتمنّى أن يظل صدّام حسين في السلطة في العراق»، مشيراً إلى أن الحرب والاحتلال في العراق «جرى التعامل معهما بنحو سيئ... ولم نكن بحاجة لأن نقوم بذلك حين فعلناه»، ولكن الشرق الأوسط أفضل من دون صدّام حسين. وأشار إلى أن صدّام كان وحشاً خلّف حكمه ربما مليون قتيل، ومن يدري كم قتيل آخر كان سيسقط لو بقي في السلطة.
وأضاف ويبر: «لم يمتلك صدّام أسلحة الدمار الشامل فحسب، بل استعملها بالفعل، على الأخص الغاز السام الذي استخدمته قوات صدّام ضد المتمردين الأكراد في شمال العراق». (لم يتطرق ويبر إلى تفاصيل هذا الموضوع، لكن استخدام الغاز السام حصل عام 1988 لإخماد انتفاضة كردية في نهاية الحرب الإيرانية ــ العراقية، حين كانت الولايات المتحدة لا تزال تميل نحو صدّام ورفضت إدارة بوش ــ الأب فرض عقوبات على نظامه على خلفية الهجوم. وجاء في مذكّرة داخلية لوزارة الخارجية في حينها: «بغضّ النظر عن حقوق الإنسان والأسلحة الكيميائية، على عدّة صعد تتوازى مصالحنا السياسية والاقتصادية مع تلك الخاصة بالعراق». بالطبع من غير العادل تحميل المحافظين الجدد أو عقيدة «الوضوح الأخلاقي» الخاصة بهم مسؤولية هذه الأحداث التي حصلت قبل عقد من ذلك التاريخ).
اتفقت مع ويبر على أن صدّام كان سفاحاً شنيعاً. لكنْ هناك دائماً سفاحون أسوأ في مكان ما من العالم يرتكبون مجازر بحق خصومهم. فهل يتطلب الوضوح الأخلاقي أن تستمر الولايات المتحدة إطاحة هؤلاء إلى حين لا يبقى أحد منهم، هذا إن حصل هذا الأمر يوماً؟

قضية مبررة لتنحية صدّام

يجيب «كلا»، فقضية إزاحة صدّام من الحكم استندت إلى عدّة عناصر. لقد كان في موقع استراتيجي في منطقة للولايات المتحدة مصالح حيوية فيها. لقد امتلك أسلحة الدمار الشامل في الماضي، وكان مصمماً على الحصول عليها من جديد. ففي أعقاب اعتداءات 11 أيلول، لم نستطع تجاهل احتمال حصول جماعات إرهابية، مناوئة لأميركا، على أسلحة دمار شامل أو حتى أسلحة كيميائية.
بالطبع، أشرت إلى أنه لم يكن من أسلحة دمار شامل. وقد وافق ويبر على ذلك، ولكنه قال إن الولايات المتحدة لم تكن وحدها، بل أجهزة استخبارات أخرى، بما فيها الإسرائيلية والبريطانية كانت على اقتناع بأن لدى صدّام برنامجاً مستمراً.
ولكنني أشرت (كما فعلت في مقال يوم الخميس) إلى أنه قبل أن تبدأ أميركا في الحرب، سُمح لمفتشي الأمم المتحدة بالعودة إلى العراق ولم يجدوا أي أسلحة أو برامج لتطويرها.
لم يعارض ويبر ذلك، ولكنه أشار إلى تقرير دولفير (هو في الواقع التقرير الأخير لمجموعة مسح العراق، التي أجرت التفتيش النهائي عن الأسلحة بعد الحرب). صحيح أنهم لم يجدوا أي أسلحة، إلا أنهم توصلوا إلى استنتاج يفيد بأن صدّام حتى تاريخ إطاحته، ظلّ يتمتع بالقدرة والنية لاستئناف إنتاج أسلحة الدمار الشامل، متى انهار نظام عقوبات الأمم المتحدة، أو كما يقول ويبر باختصار «إن اكتساب الأسلحة النووية كان هدفه الأساسي».
إذاً، بالعودة إلى الماضي، يبدو أن التبرير الأوضح لهذه الحرب هو الآتي: أجل، العقوبات والتفتيش والاحتواء نجحت في منع صدّام من تخزين أسلحة دمار شامل أو الحصول على قدرات نووية، ولكن ما كان لهذا الإجراء الثلاثي أن يستمر إلى الأبد، وصدّام لم يتخلّ عن اهتمامه في الحصول على الأسلحة. قال ويبر: «السؤال هو: هل كان بإمكاننا الإبقاء على ذلك النظام لعشر سنوات؟»، وأجاب: «لست واثقاً من ذلك. أكان ذلك لينجح؟ لا أعتقد ذلك». الطريقة الوحيدة لإزالة تهديد صدّام مع سلاح الدمار الشامل كانت في إزالة صدّام بحدّ ذاته.

روي غرو وهيغل

قبل سنوات، كان الباحث في الشؤون الخارجية في جامعة كارلتون، الأستاذ روي غرو من لفَتَني إلى ظهور المحافظين الجدد، ربما كنتم تتذكرون اسمه بفضل مشاركاته في برنامج «ميداي» على إذاعة «أم بي أر»، ليتحدث عن قضايا عالمية إلى غاري أينشتين.
في حينها، جاء تقويمه كالآتي (مجدداً من مقال ستريب لعام 2003): وصف غرو رؤية المحافظين الجدد بـ«البرّاقة، المذهلة، الجدية، وشبه الإنجيلية والجذرية جداً. ولكن من أعماقي، لا أرى أن تحليل التكلفة بالنسبة إلى الربح هو لمصلحة هذه السياسة». وتنبأ بأن تقود هذه الخطة إلى «عقدين من شبه الحروب المتواصلة».
اتصلت بغرو مجدداً هذا الأسبوع لأسأله عن النتيجة التي أعطتها حرب العراق كأرضية اختبار لنظرية مهندسيها.
فقال: «من النهاية، لا أرى أيّ شيء يعوّض أياً من التضحيات التي بذلها الكثير من شبّاننا من أجل الحرب»، وتابع: «أقدّر جهدهم، أقدّر عزمهم، لا أستطيع القول إلا: يا لها من خسارة، الكثير من الأجساد المحطمة، الجراح ستبقى عقوداً. لقد كانت ولا تزال كارثةً. لا أرى أي خير لأميركا من ذلك. أجل، لقد رحل صدّام، ولكنه ما كان يوماً تهديداً خطراً علينا».
ثمّ راح غرو يتعمّق أكثر، وقال إن اندفاع المحافظين الجدد ربما كان يستند إلى تقويم بالغ التبسيط، ذلك الاندفاع الموجود في أعماق الإنسان العادي.
وعلى حدّ وصفه، كان المحافظون الجدد يعتمدون على إيمان «متجذّر بعمق لدى معظم سكان العالم، في ما يدعوه الفيلسوف الألماني هيغل، الرجل الديموقراطي».
ولكن حين تحرر المقموعون، قد تجد أن الرجل الذي يخرج إلى السطح أولاً، ليس ذلك الذي يرغب في التصويت والمناظرة وبناء دولة قانون. يقول غرو إن من يظهر أولاً هو من وصفه بـ«الرجل الديني»، وأضيف عليه: «الرجل القبلي» أو «الرجل القومي» أو الرجل المصاب برهاب الغرباء، أي ذلك الرجل الذي يعارض رؤية المحرر للديموقراطية والسلام.
ولكن بيتر فان بورين، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، الذي عمل على ملف إعادة الإعمار في العراق ويكتب الآن مدونةً بعنوان «كانت نيتنا حسنةً» الذي كانت له رؤيته في تفاعل العراقيين مع الحملة الأميركية «لتمدينهم»، ينظر بطريقة مختلفة إلى التفاعل بين الغازي/ المحرِر والمغزو /المحرَر. فيكتب: كثيرون في العالم لا ينظرون إلينا بالطريقة التي نظنّ أن عليهم أن يرونا فيها. فالكثير من الأمور التي نفعلها، إيماناً منّا بأنهم بالفعل ينظرون إلينا كذلك (سيستقبلوننا في العراق بالحلوى والأزهار) أو إيماناً منّا بأنهم سيقتنعون بالنظر إلينا كذلك، يبدو أنها ترتد علينا في نحو 100 في المئة من المرّات. وربما لمجموعة الأسباب عينها في كلّ مرّة، فنحن أجانب، نحن محتلّون، نقتل ونشوّه السكان المحليين ونقصف أملاكهم.
(ترجمة: هنادي مزبودي)