بغداد | الزمان: التاسع من نيسان عام 2003، وعلى مشارف نهاية حرب قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية على العراق. المكان: بغداد. الحدث: نسوة يسحبن معدات وأجهزة تلفاز من داخل الوزارات، عصابات مسلحة تتبادل إطلاق النار أمام أحد المصارف. صورٌ سارعت الفضائيات في نقلها إلى مرأى العالم بأسره كدليل حيّ ومعبّر عن الحال التي كان يعيشها العراقيون في زمن نظام صدام حسين وظلت راسخة في عقول العالم والعراقيين على حد سواء. لسنوات سبقت سقوط النظام، كان الشعب العراقي يعيش ظروفاً اقتصادية تحت طائلة عقوبات الفصل السابع التي فرضها مجلس الأمن على العراق عقب حرب الكويت. البلاد كانت تسير تحت أشبه ما يكون بالتحالف الاقتصادي، أطرافه مجموعة البورجوازيات الطفيلية والبيروقراطية من حاشية صدام حسين، ومقاولين وعقاريين محسوبين على النظام، بالإضافة إلى كبار موظفي الدولة والقوات المسلحة، ومجموعة من السماسرة العاملة في تهريب الأسلحة والسوق السوداء آنذاك. عقب احتلال العراق من القوات الأميركية والبريطانية، سعى الاحتلال إلى خلق وتنمية طبقات بورجوازية طفيلية جديدة تأخذ على عاتقها مهمة أن تكون «حلقة وصل بين أجزاء من رأس المال الدولي في الخارج، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الإنتاجية وانتشار الفساد الاقتصادي الواسع وقيم السلب والنهب في الداخل» بحسب ورقة بحثية صادرة عن الحزب الشيوعي العراقي جاءت تحت عنوان «تناقضات المرحلة الراهنة. الجوهر والتجليات».
وأوضحت الوثيقة أن قوات الاحتلال الأميركي كانت حريصة على حماية مبانٍ تهمها بالدرجة القصوى، وعلى رأسها مبنى وزارة النفط، بالإضافة إلى عدة مبانٍ أخرى، بينما تركت المستشفيات والوزارات عرضة للنهب «الفرهود» وسط انعدام التفريق بين ما هو تابع لملكية صدام حسين وحاشيته من جهة، وما تملكه الدولة من أخرى.
عمليات النهب والسلب تميزت بسعة النطاق وساهمت فيها أطراف متباينة الأهداف والنوايا، بدءاً بعصابات المافيا، مروراً بالجماهير المعدمة اليائسة، وانتهاءً ببعض القوى السياسية التي استطاعت، بمساعدة جهات تجارية تابعة لها، تنظيم عمليات تهريب وبيع ممتلكات الدولة خارج حدود البلاد، وتحويل أثمانها إلى رساميل وضعت في خدمة أنشطتها السياسية التجارية.
هذه الأعمال جرت بمباركة سلطات الاحتلال وبضوء أخضر منها، حيث ذكرت صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية، أن وزير الدفاع البريطاني آنذاك، جف هون، خاطب المدنيين قائلاً «استمروا بالنهب». وأكد ذلك في موقف من داخل البرلمان البريطاني، واصفاً أعمال السرقة والنهب بأنها «تحرير للمواد من مرافق النظام السابق وإعادة توزيع الثروة بين أبناء الشعب العراقي»، مضيفاً «إنني أعتبر هذا السلوك من الممارسات الجيدة». وكذلك الحال بالنسبة إلى وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، حين علّق على أحداث سرقة آثار المتحف العراقي، قائلاً «إنها أمور تحدث، حيث إنها تماثل أعمال شغب جمهور لعبة كرة القدم».
الدمار الذي خلفه الاحتلال لم تبادر الوزارات العراقية ولا الجهات المعنية مثل وزارة التخطيط العراقية الى تقييم الحجم الكلي للأضرار التي خلفتها هذه العمليات، ولم تسع إلى دراسة الطبقات والفئات المجتمعية الجديدة التي بات يصطلح شعبياً على تسمية بعضها «الحواسم».
أستاذ العلوم السياسية سعد الحديثي اعتبر أن «الدول تشهد تغييرات اقتصادية، وخصوصاً في أوضاع كتلك التي شهدها العراق، وبالفعل فإن هناك طبقات جديدة قد تشكلت في البلاد بعد عام 2003 تسعى إلى الاغتناء السريع»، مشيراً إلى أن «هذه الطبقات لم تتدرج في كسبها للأموال، كما أن هذه الطبقات لا يمكن الاعتماد عليها في عملية إعادة بناء الاقتصاد الوطني».
آخر إحصائية متعلقة بهذا الشأن تشير إلى أن خُمس العراقيين فقط يستحصلون على نصف الدخل القومي للبلاد، ما يعني أن الأربعة أخماس المتبقية تتشارك النصف الآخر المتبقي. ويؤكد الحديثي أن طبقات الطفيليين الجديدة تساهم في تجذير قيم الرشى والفساد المالي والإداري داخل المجتمع العراقي، معرباً عن اعتقاده بأن قوات الاحتلال لم تعمد إلى خلق هذه الطبقات «إلا أن تكوينها كان نتيجة لسوء إدارة للبلاد مارسته تلك القوات، حينما ركّزت جلّ اهتمامها على الجانب الأمني، ونسيت الجوانب الأخرى».
في المقابل، تذكر الناشطة العراقية هيفاء زنكنة أنه «لا يمكن افتراض أسباب واحدة لحالات التخريب والنهب الغوغائية في كل زمان ومكان. إلا أن القاسم المشترك بينها، عموماً، هو انحسار أو غياب قوة القانون والانضباط الاجتماعي في ظروف أزمة اقتصادية أو سياسية أو انفجار غضب عام على القمع والفساد، تتداخل فيه الأهداف المستهدفة بحيث ينعدم التمييز بين ما هو ملك أهلي وعام وبين ما يعود للطبقات الفاسدة»، مستدركة بالقول «غير أن هذه التحليلات لا تنطبق تماماً على حالة النهب والسرقات التي سادت العراق في الأيام التي تلت نزول قوات الاحتلال إلى الشوارع».
وتضيف زنكنة إن «نهب العراق كان فعلاً استراتيجياً منظماً لتسهيل جهود قوى الاحتلال الأنجلو أميركي على تدمير الدولة والثقافة والنسيج الاجتماعي»، موضحةً أنه «لا يزال اثنان من كبار المسؤولين البريطانيين الذين حثوا على نهب العراق، وتخريب بنيته التحتية، وحرق مكتباته ومتاحفه ومعارضه، يتمتعان بحياتيهما، خارج حدود القانون والعدالة».