دمشق | من أكثر الأمور التي تثير غضب وسخط غالبية المواطنين السوريين اليوم، هي ظهور مسؤول حكومي رسمي، أو محلل اقتصادي على إحدى وسائل الإعلام، ليلقي على مسامعهم خطبة صماء. خطبة تهدف لطمأنتهم وإعطائهم حقنة من التفاؤل المزيف، حول الواقع الاقتصادي المتردي الذي وصلت إليه بلادهم، نتيجة الأزمة والحرب المستعرة في مختلف المدن السورية. على أرض الواقع، حالة من التضخم النقدي نهشت القيمة الشرائية لليرة السورية بشكل تدريجي، تزامنت مع غلاء معيشي غير مسبوق، حوّل الواقع الاقتصادي للغالبية العظمى من العائلات السورية، إلى جحيم حقيقي، لم تعد تنفع معه مجمل التصريحات الرسمية، الخارجة من دوائر القرار الحكومي، بهدف إيهام المواطن البسيط والمغلوب على أمره، أنّ الأمور لا تزال تحت السيطرة تحقيقاً للمثل القائل: «شدة وبتزول يا أخي المواطن». أرقام متضاربة تضمنتها تقارير اقتصادية عالمية ومحلية، بيّنت حجم الخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوري خلال العامين الماضيين. التصريحات السورية الرسمية أكدت أنّ حجم الخسائر بلغ منذ بداية الأحداث وحتى شهر شباط الماضي «48 مليار دولار أميركي»، في الوقت الذي شككت فيه الكثير من الدراسات والاحصائيات العالمية التي عملت عليها مؤسسات اقتصادية عالمية مستقلة، في صدقية هذه الأرقام. «من الصعب تحديد القيمة الحقيقية لحجم خسائر الاقتصاد السوري، لعدم تمكّن اللجان الحكومية المختصة المكلفة بمعاينة الأضرار والخسائر، من الوصول إلى الكثير من المناطق المنكوبة والمدمرة، بسبب الأوضاع الأمنية السيئة، واستمرار العمليات العسكرية والمواجهات المسلحة»، يخبرنا المحلل الاقتصادي والأستاذ في جامعة دمشق قيس خضر. وهو يؤكد لـ«الأخبار» أن أكثر الخسائر من الناحية الاقتصادية لحقت في مدينة حلب باعتبارها العاصمة الاقتصادية للجمهورية السورية. «المئات من المعامل الكبيرة، والورش الصناعية الضخمة، نهبت وسرقت من قبل العصابات المسلحة، التي شحنت آلاتها ومحتوياتها إلى تركيا وباعتها هناك بأسعار بخسة»، يضيف. ويحدد الباحث الاقتصادي الأسباب الأساسية، في تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يزداد حجمها بشكل متسارع في عموم مناطق البلاد، «بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول العربية والعالمية، كوسيلة فعالة لزيادة الضغط على الحكومة السورية، وانعدام حركة تصدير المواد المختلفة، التي كانت تغذي البنك المركزي بالقطع الأجنبي سابقاً، مع استمرار الشائعات حول طباعة عملة سورية جديدة، وضخّها في الأسواق، كل هذا ساهم في إضعاف قيمة الليرة السورية في التعاملات التجارية، ما زاد من حجم التضخم المالي». ينفي الخضر، في نهاية حديثه، صحة الأخبار التي تتناقلها وسائل إعلامية مختلفة، حول انخفاض مخزون القطع الأجنبي في خزائن بنك سوريا المركزي، ووضع مجمل هذا الأخبار في خانة «الحرب النفسية التي تهدف بالدرجة الأولى، إلى إثارة الرعب والذعر لدى المواطنين».
مع مطلع العالم الحالي، تعدى سعر الدولار الأميركي حدود 100 ليرة سورية في السوق السوداء، في حال توفره بالطبع، باعتبار مجمل البنوك الحكومية مثل البنك العقاري، والبنك التجاري، بالإضافة إلى شركات الصيرفة وتحويل الأموال الخاصة، تشتري مجمل العملات الأجنبية، بما فيها الدولار الأميركي بشكل خاص من عملائها، لكنها تتفق على جواب موحد ومتشابه، لمن يطلب شراء بضعة دولارات أميركية: «منعتذر منك أستاذ، ما في عنا دولارات». تزامن التعديل الوزاري الأخير في الحكومة السورية، مع أزمة المحروقات التي ضاعفت أسعار جميع المواد الاستهلاكية والغذائية وأجرة المواصلات بشكل جنوني. يعلّق وليد (37 عاماً)، الموظف الحكومي، الذي يقضي وقته بعد انتهاء دوامه الرسمي باحثاً عن عمل إضافي ليؤمن متطلبات زوجته وأبنائه الثمانية، أنّه «من المفترض أن التعديلات الوزارية في مثل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، ضرورية لتقديم جملة من الحلول لمساعدة المواطن بالدرجة الأولى. لكن الذي حصل هو العكس تماماً. هل يدرك وزراء حكومتنا الأفاضل القيمة الشرائية المتدنية التي وصلت اليها ليرتنا السورية اليوم؟». ويضيف «أتقاضى راتباً شهرياً مقداره 12000 ليرة سورية (120 دولاراً أميركياً) وصل سعر سندويش الفلافل إلى 50 ليرة سورية، ولو أردت تأمين واحدة منها فقط كل يوم لجميع أفراد عائلتي العشرة لاحتجت إلى 500 ليرة سورية في اليوم، أي 15000 ألف ليرة في الشهر، بزيادة 3000 ليرة عن راتبي الشهري! لا أعلم إن كان الدكتور اليساري قدري جميل يحب الفلافل، ويعلم كم بلغ سعره هذا الذي يعتبر الطعام المفضل للفقراء والبروليتاريا!».
قبل حوالي العام ونصف العام، كان وليد يعمل سائقاً على سيارة أجرة، بدوام إضافي يمتد لساعات متأخرة من المساء، كما هو الحال مع غالبية أصحاب الدخل المحدود «لكن سيارة الأجرة التي كنت أعمل عليها، سرقت من قبل جماعة مسلحة في منطقة دوما، والظروف الأمنية السيئة لم تسمح لي بإيجاد عمل إضافي آخر»، يقول لـ«الأخبار».
في موازاة ذلك، لا تتأخر الحكومة السورية في صرف رواتب موظفيها. في اليوم الأول من مطلع كل شهر يحتشد مئات الموظفين الحكوميين في طوابير طويلة أمام الصرافات الآلية المتواجدة في أماكن آمنة للحصول على راتبهم الشهري. «تعاني غالبية صرافات النقود الآلية من مشاكل تقنية مطلع كل شهر، نتيجة الضغط الشديد عليها، الذي يسببه عدد المستخدمين الكبير، القادمين من المناطق المتوترة والخطرة أمنياً. الجميع يسحب راتبه كاملاً دفعة واحدة، لضعف قيمته الشرائية التي لم تعد تكفي لأيام قليلة»، يقول نعيم الموظف في أحد فروع البنك التجاري السوري، والمسؤول عن صيانة الصرافات الآلية. ظاهرة جديدة تنتشر بكثرة في شوارع وساحات العاصمة السورية دمشق، تتمثل بالتسول الأسري. يفترش رجل مع زوجته وأطفاله الصغار، ناصية شارع رئيسي في عاصمة الأمويين، متوسلاً المارة ثمن علبة حليب لطفله الرضيع، أو ما يجود عليه كرمهم وسخاء أنفسهم. عبارات التسول والتوسل تسمعها اليوم بجميع لهجات المحافظات والمناطق البعيدة، في مشهد يختزل الأحوال المادية الصعبة والمتردية، التي وصلت إليها آلاف العائلات السورية نتيجة الحرب المستمرة في بلادهم.