دمشق | يفضّل المواطن السوري في هذه الأيام السير على قدميه في الطريق نحو عمله عبر شوارع دمشق بدلاً من أن يستقل سيارة أجرة، تفادياً للازدحام المروري الخانق والانتظار الذي يطول على الحواجز الأمنية والعسكرية. في طريقه، قد يمرّ على المؤسسات الاستهلاكية، وسط العاصمة، التي لا تشبه مثيلاتها في المناطق الساخنة. إذ إنّ عمليات السلب والنهب التي تعرضت لها مؤسسات الدولة في الريف ليست خافية على أحد. زيارة قصيرة إلى إحدى المؤسسات الاستهلاكية في العاصمة، توضح أنّ هذا المخزن التجاري غير الحديث يحتوي كل احتياجات المواطنين وبأسعار رخيصة، وأنّ كل من لديه «دفتر عائلة» يحدّد عدد أفراد أسرته سيستطيع الحصول على ما يحتاج إليه من مواد غذائية وتموينية، بما لن يكلفه بضع ليرات لكل كيلو غرام من إحدى المواد. ما يرسم تساؤلات عدة حول الدعم الكبير على الكثير من المواد، والذي لم تتخلَّ الدولة عن تقديمه، رغم كل ما يجري الحديث عنه يومياً من غلاء ناتج من ارتفاع سعر الدولار وانهيار الاقتصاد السوري وتدمير المرافق العامة.
رواتب الموظفين بحد ذاتها حكاية. لا تأخير في دفع الرواتب لكل من لا يزال على رأس عمله في دولة يقدّر عدد موظفيها بمليون ونصف المليون فرد. ما يدفع الناس إلى التساؤل: بعد سنتين من استنزاف مقدّرات الدولة في حرب عبثية، إلى متى تستمرّ القدرة على دفع الرواتب بانتظام؟
يروي سامر، سائق سيارة أجرة، مقيم في حيّ العباسيين، عن الاشتباكات العنيفة التي وقعت منذ فترة في الساحة ما أدى إلى إغلاقها ووضع إحدى الدبابات فيها تحسّباً لأي تقدم قد يحرزه مسلحو المعارضة. يبتسم حين يوضح أن الساحة لم تغلق سوى ساعات قليلة. ابتسامة الرجل تتسع عندما تظهر في الشارع الموازي سيارة تابعة لمحافظة دمشق تحمل خزان مياهٍ ضخم لريّ الأشجار المنتشرة على جانبي الأتوستراد وفي منتصفه. والابتسامة تتحول إلى قهقهة قائلاً: «أشعر أحياناً بالطمأنينة حين أراهم مطمئنين إلى وضعهم وثابتين فيه. انظري كيف يتصرفون وكأن شيئاً لا يجري في البلد. إنهم يتابعون الأمور الخدماتية وبالهم مرتاح. يسقون الشجر في منطقة كانت منذ يومين مرتعاً للاشتباكات». المسافة القريبة للوصول إلى الشهبندر ليست عذراً، كما الحديث الودود، بالنسبة لسامر، فهو سيطلب 300 ليرة سورية أجرة الطريق المرهق، مستغلاً الأزمة المرورية الخانقة والازدحام على محطات الوقود.
يتحدث توفيق، سائق سيارة أجرة آخر، عن الدولة القوية التي لا تلين منذ سنتين. ولا يخفي الرجل الخمسيني ميوله المعارضة إلا أنه يتوقف طويلاً عند كل إشارة تعطيها المعارضة وبعض القوى الخارجية على أن النظام يضعف وسيسقط، فيقول: «لا يسقط إلا نحنُ، بينما النظام باقٍ. حتى عند استهداف قياداته، تجد سيارات منشآت الدولة الخدمية تضرب قطعة عملاقة من القماش الأخضر للتغطية على آثار الانفجار والمسارعة إلى ترميمه. فتُعقد المناقصات ويبدأ المتعهدون بتقديم عروضهم وكأن البلاد لا تعيش حالة حرب. إنّ هذه تصرفات يقوم بها من هو متأكد من بقائه». برأي توفيق فإن الرئيس بشار الأسد باقٍ، ويتابع قوله: «لا أظن أنه سيخسر انتخابات 2014. سيربح سبع سنوات جديدة، فهذه الحرب لا تجري من أجل بقاء الدولة قائمة سنة واحدة فقط».
وبالقرب من انفجار المزرعة الأخير وسط العاصمة السورية يبدو جسر الحياة قائماً. آثار باقية لدمار خلّفه الانفجار، إلا أن الحياة عادت إلى سابق عهدها، وتجد في داخل أحد المباني المتهدمة واجهتها بعض الأشخاص يتنقلون داخل المبنى، فيما شرطة المرور في الشارع يقومون بعملهم ويتناوبون على إعطاء المخالفات والتأكيد على وضع الحزام، وسط دهشة وتعليقات المواطنين التي لا تنتهي.
أما في ساحة الأمويين، فيقف مبنى قيادة الأركان الذي تعرض لانفجار منذ أشهر، حيث أعمال الترميم تجري على قدم وساق.
وفي المقابل، الأحاديث تطول عن حياة السوريين في المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر، فالمحاولة واضحة لإظهار أن هذه المناطق هي عبارة عن دولة داخل الدولة. يروي أحد سكان ريف إدلب أنّ المازوت والبنزين متوافران في ريف إدلب وحلب بسعر الدولة القديم ما قبل الأزمة، والخبز متوافر بكميات كبيرة.
الحرب في سوريا لا زالت تبتلع خيرة شبابها من مدنيين وعسكريين، إنما الدولة، ومن ورائها النظام، لا زالت تملك من القوة ما يكفي أن ترهب معارضيها وتُرضي مؤيديها، وتبقى ملاذاً لمواطنيها. لتحافظ هذه البلاد على مكانتها كبلدٍ لا يموت فيها الفقير جوعاً.