تونس | نجح رئيس الحكومة المستقيل حمادي الجبالي، في التخلص من صورته كأمين عام لحركة النهضة الاسلامية في ظرف وجيز، إذ ارتفعت اسهمه وأصبح بمثابة «المنقذ» لتونس من أزمتها السياسية. أزمة أجمعت الأحزاب السياسية على تحميل جزء كبير من مسؤوليتها لحركة النهضة. وزادت استقالة الجبالي من رئاسة الحكومة من شعبيته، إذ ان الكثيرين، حتى من أحزاب سياسية، كانوا يعتقدون أن المسألة لا تخرج عن «توزيع الأدوار» بين أجنحة «النهضة».
لكن خروج الآلاف بقيادة زعيم الحركة راشد الغنوشي الى الشارع للتنديد بـ«الانقلاب» واستقالة الجبالي في ما بعد، وربطه عودته للترشح بشروط دقيقة وحاسمة واعتذاره للشعب، أكد أن الرجل صادق في ما سعى اليه. كذلك أكدت هذه المعطيات ان الجبالي استفاد من تجربة السلطة وأصبح يرى السياسة من زاوية نظر رجل الدولة، وليس القيادي في حركة النهضة.
ونسي الشارع بسرعة مسؤولية الجبالي كرئيس حكومة عن أحداث سليانة وإصراره على المحافظ الذي دعت المعارضة الى إقالته. كما نسي الشارع أيضاً خطاب الجبالي الشهير عن «الخلافة السادسة». لكن أي مصير لللجبالي الآن؟
فتح التباين بين الجبالي والغنوشي الباب للحديث عن «انشقاقات» داخل أعرق الحركات الإسلامية، وخصوصاً مع بروز القيادي «النهضوي» عبد الفتاح مورو، بخطاب حاد ضد قيادة الحركة في جريدتين فرنسيتين «لو فيغارو» و«ماريان». كما جاءت استقالة نائبة في المجلس التأسيسي لتؤكد ذلك.
ويأتي هذا الحراك داخل الحركة مع فشل «النهضة» في تجربتها في الحكم، وتراجع شعبيتها واتهامها بالوقوف وراء التأسيس للعنف بالنسبة الى السلفيين ورابطات حماية الثورة، وكذلك مسؤوليتها الأخلاقية عن اغتيال القيادي في الجبهة الشعبية شكري بلعيد.
كل هذه المعطيات قد تكون دفعت الجبالي الى محاولة الخروج من «جبة الشيخ». أما فشل رئيس الحكومة السابق الآن، فذلك لا يعني انه سيلقي بالمنديل، بل قد يكون دخل عملياً في الإعداد لتغيير التوازنات من داخل قواعد الحركة ليكون الرجل الأول في المؤتمر المقبل في ٢٠١٤. ويتيح له ذلك النجاح في فرض خط الاعتدال وتخليص الحركة من «الخط الوهابي» الذي يُتّهم الغنوشي بقيادته.
هذا ما يمكن الذهاب اليه، بعدما استقبل مجلس الشورى الأمين العام بحماسة وتأكيد الغنوشي أن الجبالي من قيادات الحركة الذين نعتز بهم، وان «الحركة بيت واحد». وهو نفس الاستقبال الذي خص به الشيخ مورو. إشارة واضحة من الحركة الى الرأي العام تؤكد ما كتبه الجبالي على صفحته الرسمية على «الفايس بوك» بأنه لا «ينوي تأسيس حزب جديد».
هذه القراءة الأولى قد لا تكون الوحيدة، فالجبالي مهندس الطاقة الشمسية المولود في مدينة سوسة سنة ١٩٤٩، والذي تولى قيادة الحركة في سن الشباب عام ١٩٨٢ بعد سجن القيادة التاريخية للحركة في أول محاكمة سنة ١٩٨١، ينتمي الى الساحل (غرب) أي المنطقة الي تخرّج منها معظم قادة تونس في العصر الحديث. قادة في الدولة وفي الحزب الدستوري.
وقد عرفت هذه المنطقة بتحالفها مع أرستقراطية مدينة تونس للمحافظة على حكم البلاد وكان ترشيح «النهضة» له في البداية وفق مجموعة من الاعتبارات، بينها انحداره من الساحل، وذلك في رسالة طمأنة لأصحاب النفوذ في تاريخ البلاد إلى أن السلطة لن تغادر الساحل.
وعندما حاول الجبالي أن يتباين عن الخط العام في حركته، كانت أول تهمة يواجه بها من وسط حركته انه «ساحلي»، بل اتهم أيضاً بانه وقع تحت «تأثير بارونات» حكم زين العابدين بن علي، مثل رؤساء الحكومة السابقين حامد القروي والهادي البكوش.
ان الصراع الخفي في تونس الآن هو صراع جهوي أيضاً في وجه من وجوهه. فالقوى المسيطرة في حركة النهضة ليست من العاصمة ولا من الساحل، بل من «الأطراف» التي تُعتَبر أنها ظُلِمت في دولة الاستقلال، ولا سيما أن معظم قيادات «النهضة» من منطقة قابس ومدنين (الجنوب الشرقي) وصفاقس (وسط) وهي مناطق أبعدت من القرار السياسي.
والآن ورغم وجود مصطفى بن جعفر رئيساً للمجلس الوطني، وهو من أرستقراطية العاصمة، الا ان التحالف بين الرئيس المنصف المرزوقي (من مدينة دوز الصحراء الكبرى) والغنوشي (من الحامة على أطراف الصحراء) جعل من القرار الفعلي بين يدي الغنوشي والمرزوقي أكثر من رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر. وبالتالي فتونس تعيش لأول مرة مقاربة سياسية جديدة قوامها هذه المرة «الأطراف». ويبدو أن الجبالي انسحب، بعدما فهم انه غير قادر على فرض خطه. وقد يكون هذا الانسحاب تكتيكياً فقط، فهذا هو الرجل الذي اتُّهم بالتورط في تفجيرات ١٩٨٦، التي ذهب ضحيتها سياح المان لدرجة وصفه بـ «حمادي تفجيرات»، عرف بصلابته.
لقد راوغ الرجل الأمن وعاش في السرية بهوية مزورة وحوكم سنة ١٩٩٠ (كان آنذاك رئيس تحرير جريدة «الفجر» الناطقة باسم الحركة) بستة عشرة عاماً قضى عشر سنوات منها في سجن انفرادي واطلق سراحه سنة ٢٠٠٦. ولم يغادر تونس خلافاً لأغلب قيادات الحركة. بل نجح في إعادة بناء الحركة مع علي العريض، الذي اصبح وزيراً للداخلية، والذي لم يغادر تونس أيضاً.
وكان الجميع يتوقع أن الجبالي سيكون رجل الحركة الأول بعد الثورة، لكن عودة الغنوشي الى النشاط السياسي جعلته يكتفي بالدور الثاني. الاّ أن أزمة التعديل الوزاري كشفت انه دور ثانوي وان الغنوشي يملك كل الأوراق.
فهل سيغادر الجبالي الحركة بعد ان يئس من امكانية التغيير من الداخل؟
الى حد الآن لا شيء يؤكد ذلك، فحمادي الجبالي نجح في ان يكون زعيماً بآفق شعبي وهو ما كانت تبحث عنه الحركة التي كانت تخاف من الانتخابات الرئاسية لانعدام مرشح قادر على إقناع الشعب. اما الان فيبدو ان حمادي الجبالي قادر على لعب هذا الدور. فهل سيكون الجبالي منقذاً لشعبية النهضة من خارج الحكومة؟ ام هي استراحة محارب سيعود بعدها لمواصلة مساره السياسي اما بخلق هزّة داخل هياكل الحركة لتحييد خط الغنوشي ومجموعته ام يغادر الحركة نهائيًا لتشهد تونس ما يشبه السيناريو التركي عندما غادر رجب طيب اردوغان جبة نجم الدين أربكان؟



نسخة سلفية داخل «النهضة»


حمّل نائب رئيس حركة النهضة في تونس عبد الفتاح مورو (الصورة)، السلطة والأطراف السياسية في بلاده مسؤولية مقتل الناشط اليساري شكري بلعيد بسبب اشاعتهم المناخ السياسي المؤاتي. وأكد مورو في برنامج «نقطة نظام» الذي بُثّ أمس على قناة «العربية» أن هناك نسخة سلفية داخل حركة النهضة ولكنها ليست مؤثرة. وأضاف «لست مقتنعاً باتهام السلفيين باغتيال بلعيد كما أن النهضة ليس من مصلحتها انتشار العنف في البلد بينما هي في سدة الحكم».
ورأى مورو أن «القضية في تونس ليست قضية اسلامي وغير اسلامي، بل تقدمي ورجعي». وقال «هناك رجعيون اسلاميون يريدون ان يطبّقوا الآن نمط الحكم الاسلامي الذي كان سائداً في صدر الاسلام». وأضاف «ان من يخرج من المسجد مقتنعاً بمحتويات الكتب الدينية، لا يمكن ان ينجح في الحكم الا اذا أتقن استخدام ادوات الحكم»، مطالباً الإسلاميين أن يُطعّموا تجربتهم بتجارب الآخرين. وأعرب عن تخوفه من انتشار الفوضى في البلد، محذّراً من الانزلاق الى السيناريو الجزائري. وقال «في حال انتشار الفوضى فإن الجيش هو القوة المنظمة الوحيدة التي يمكنها ضبط الأوضاع».
(الأخبار)