القامشلي | فور إدلاء رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، بتصريح مثير، أخيراً، أنكر فيه وجود «قضية كردية» في بلاده، واصفاً إياها بمشكلة مواطنين أكراد. صدرت ردود عنيفة من جانب الساسة الأكراد في البلاد. ربما كان أقساها تلك التي أدلى بها رئيس «حزب السلام والديموقراطية» الكردي، صلاح الدين ديميرتاش، الذي أجاب أردوغان متهكماً: «نعم أنا أوافقك بأنه ليس هناك من قضية كردية في تركيا، بل هناك قضية فاشية الدولة وسـياسة الإنكار والصهر». هذا الجدل يتزامن مع قطع المفاوضات التي تجريها أنقرة مع قيادة حزب العمال الكردستاني شوطاً مهماً، ذلك مع تسرب أحاديث تفيد بزيارات، غير علنية، لكبار مسؤولي الاستخبارات التركية لأربيل (عاصمة إقليم كردستان العراق)، بهدف عقد لقاءات حول هذا الملف الشائك أو «الصفحة الرهيبة»، التي بارك الرئيس الأميركي باراك أوباما جهود الطرفين لمحاولة طيّها.
واقع الحال، اليوم، يقول إنّ الملف الكردي بات يشكل عبئاً ثقيلاً على حكومة أردوغان. فبعدما كان زعيم حزب العدالة والتنمية يسيطر على الداخل، ومتفرغاً لمراقبة تحركات الساسة في أربيل، ومطمئناً من جهة «الخطر الكردي» الشرقي، حيث قبضة النظام الإيراني الصلبة، وكذلك الجنوبي الذي كان بيد النظام السوري، أضحى الملف الأخير يزيد، بتداعياته المُتفرعة، أسباب قلق الساسة في أنقرة. إذ بدأ الأتراك ينظرون إلى ملف الأكراد في سوريا على أنّه جزء من لعبة جيوبوليتيكية تستخدم ضدّهم في العلن.
بالعودة إلى بعض الرؤى، قد تشدنا فكرة تقول إنّ الأكراد قد يقلبون تحالفات سادت في الشرق الأوسط، خلال المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى، رأساً على عقب. ولكن هذا الرأي يستدرك بأنهم لا يستطيعون فعل ذلك من دون تركيا، التي من جانبها، تعي جيداً أن تطورات «الربيع العربي»، مثلما أثارت تهديدات، فقد أتاحت فرصاً. كما ينوّه بعض المُتبحرين في الشأن الكردي بأنّ أكراد سوريا (نحو 13% من السكان)، قد يتطلعون إلى تركيا بحثاً عن الدعم من المخاطر المحيطة، وذلك تكراراً لتجربة أكراد العراق.
والواقع، أنّ الكرد اليوم، يشكلون رقماً صعباً في المعادلة السورية، لكنهم، كغيرهم من أطراف المعارضة، باتوا يمثلون القوى الإقليمية المتضاربة المصالح في المنطقة. وربما هذا الأمر عجّل في قرار أنقرة الجلوس إلى طاولة التفاوض مع من تسمّيهم «الإرهابيين» في جبال قنديل. فحزب العمال الكردستاني، بعد سنوات من القمع في سوريا، بات يتنفس، مع رد النظام السوري على انقلاب الأتراك ضده، بتفريغ اتفاق «أضنة» عملياً، مقدماً التسهيلات للكردستاني، من حيث حرية عمل حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (PYD)، الذي تعتبره أنقرة النسخة السورية من الكردستاني.
إنّ تركيا، بالتزامن مع تحريك سواعدها أو أدواتها المسلحة في سوريا في المناطق التي يسيطر عليها (PYD) (ما حصل في حلب، عفرين، ويحصل في سري كانيه أو رأس العين)، تستمر في بذل جهود دبلوماسية لاحتواء الملف الكردي في سوريا، سواء عن طريق المعارضة السورية، أو من خلال حكومة أربيل. ولا سيّما أن العلاقات التركية متردية مع كل من دمشق وبغداد وطهران، ما يجعل من الزعيم الكردي مسعود البرزاني الخيار الأفضل كوسيط لأنقرة. لكن هذا لا يعني أنّ الأتراك يثقون برئيس الإقليم الكردي، الذي توسط بين «المجلس الوطني الكردي» و«حزب الاتحاد الديموقراطي»، ليشكّلا «الهيئة الكردية العليا»، وذلك كتكرار لخطوات اتخذتها الأحزاب الكردية العراقية بعد حصولها على الحكم الذاتي. غير أنّ هناك من يرى أن البراغماتية ترجَح كفَّتُها على أي شعورٍ قومي قوي، على اعتبار أن العلاقة بين أربيل وأنقرة «تستند إلى مخاطر المطامع، وتعهُّد حكومة أربيل لتركيا ألا تتجاوز حدودَها في ما يتعلق أيضاً بأكراد تركيا المجاورة».
تعتمد تركيا أيضاً، على المحيط العربي الفاعل الذي لا مصلحة له بتقسيم سوريا، وكذلك الفاعل الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة. وبالتوازي مع ذلك، ترسل أنقرة التعزيزات العسكرية على الحدود مع سوريا. لكن الأفضل استبعاد فكرة التعامل مع التدخل العسكري في سوريا، من بوابة الملف الكردي. واستناداً إلى ما سبق من قيود، بالإضافة إلى عدم استعداد الحلف «الأطلسي» للمشاركة في أيّ نوع من أنواع العمل العسكري، وما ستسلكه موسكو وإيران ضد أي تحرك يمس مصالحها، تجعل من تركيا رهينة العمل السياسي.
ذات يوم، سئُل باحث كردي عن مدى صحة عبارة أنّ أيّ حل لقضية أكراد سوريا اليوم، لا بد من أن يمر عبر جبال قنديل؟ أجاب: «إنّ أيّ انفتاح من جانب حكومة أنقرة على القضية الكردية في تركيا سينعكس مباشرة على أكراد سوريا». وكما يصف أحد المحللين، فإنّ كرد تركيا، يعدّون أيضاً «قطعة من اللغز». إذا نجحت محادثات السلام بين أنقرة والكردستاني، فقد تكون تركيا قادرة على تحويل «الورقة الكردية» لصالحها. وعلى هذه الفكرة، يعلق تقرير لـ«مجموعة الأزمات الدولية»، بأنّ على تركيا، في حال شعورها بالضعف في ما يتعلق بالملف الكردي، فإن أفضل دفاع لرئيس الوزراء التركي هو ترتيب البيت الداخلي بأفضل شكل ممكن.
والسؤال، هنا: هل يتراجع أردوغان عن تصريحاته، بفعل عملي، ليعترف، وإن ضمناً، بأن هناك قضية كردية في تركيا، ليكسب الأكراد في «الأجزاء الأربعة». ويساهم في تهدئة أي حريق مُتوقع على حدوده الجنوبية (سوريا)؟
أغلب الظن، ستكون الإجابة: لا. وإن حدث ذلك فان الأمر يحتاج إلى سنوات وسنوات. وإذا نجحت محادثات السلام، بين أنقرة والكردستاني، كما هو مخطط لها، يفيد المقربون من كواليس المفاوضات بأن مقاتلي الكردستاني سيلقون أسلحتهم، ويتجهون نحو العمل السياسي. في المقابل، ستُصدر تركيا عفواً شاملاً عن أعضاء الحزب، وتمنح الحقوق الثقافية للأكراد. كما يُحتمل أن يرى زعيم الحزب عبد الله أوجلان نهاية عزلته. لكن، ومع ذلك، يرجح محللون ألا يقبل بعض القادة المتشددين في الحزب، ولا سيما الكرد السوريون، ممن يقاتلون في قنديل، بهذا المخطط. وهو ما يمكن أن يُضعف موقف الكردستاني في المفاوضات، التي قد تكون تاريخية بالنسبة إلى صراع تسبب بمقتل أكثر من40 ألف شخص، وأهدر ما يتجاوز 300 مليار دولار، خلال نحو ثلاثين عاماً.