للمرة الأولى بعد إخفاقات متكررة، تنجح الثورة المصرية في اللجوء إلى العصيان المدني كوسيلة للضغط على النظام. النجاح هذه المرة كان من نصيب مدينة بور سعيد وليس القاهرة أو حتى الإسكندرية. وبدأ العصيان بغياب غالبية موظفي الحكومة عن أعمالهم وغلق الشركات الخاصة، فيما عمد محتجون إلى إخراج من حضر من الموظفين من مبنى المحافظة وهيئة ميناء بور سعيد ومبنى قطاع الجمارك، فضلاً عن قطع خط السكك الحديدية. كما خرج آلاف الأهالي في مسيرات «للمطالبة بحق الشهداء والقصاص من الداخلية».
قرار تنفيذ العصيان المدني في بور سعيد جاء ليشير إلى تأزم غير مسبوق في المدينة، التي كانت الشهر الماضي على موعد مع اشتباكات دموية بين الشرطة والمحتجين، راح ضحيتها أكثر من 40 شخصاً بعد أحكام الإعدام التي صدرت بحق عدد من أبناء المحافظة على خلفية أحداث استاد بور سعيد.
وتأزم الوضع أول من أمس بعد وفاة محمود محمد النحاس، متأثراً بجروح أصيب بها الشهر الماضي، ليقرر أهالي بور سعيد أن الصبر قد نفد من هذا النظام وأن الحل في العصيان المدني السلمي. وهو ما نفذ أمس وسط تمنيات الأهالي أن يؤدي عصيانهم إلى استجابة سريعة لمطالبهم المشروعة، بدلاً من الاضطرار إلى الدخول في مواجهات جديدة والسعى نحو تطبيق القصاص بأيديهم، بعدما سقطت أسطورة «دولة القانون» على أيدي ضباط وأمناء الشرطة في بني سويف. فهؤلاء قرروا أن يثأروا بأنفسهم من قاتل زميل لهم، من خلال إخراج القاتل من مركز الاحتجاز وسحله في أنحاء المدينة.
وأكد بعض أهالي بور سعيد، فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم، «اعتزامهم على أخذ الثأر من أجهزة الداخلية على وجه الخصوص، في أقرب وقت ممكن، لأنه لم يعد في الحياة قيمة. وصار أسفل الأرض أكثر كرامة واحتراماً مما يجرى أعلاها». كما أكدوا أنهم «آخذون في جمع الأسلحة، للأخذ بالثأر القريب، لأن الأمل الذي كان يبدو ولو قليلاً في رئيس انتخبناه لكي يجلب حقوقنا، قد تبدد للأبد، فها هو يقولها صراحةً على العكس من (حسني) مبارك، بأنه قام بإعطاء الأوامر لأجهزة الأمن باستخدام هذا الحزم». ويضيف هؤلاء «كنا نفترض في البداية أن العيب في أن مرسي ضعيف وليس مسيطراً بما فيه الكفاية، أما الآن فيخرج ليعلن علينا الحظر، فها هي بور سعيد وكل مدن القناة تخرج بكل تلقائية ودون تلبية لدعوة أي من القوى والرموز والحركات السياسية، لتقول له قولة رجل واحد «بور سعيد بتقولك... الحظر ده عند أمك»».
لماذا بور سعيد؟
شهدت بور سعيد أحداثاً دامية منذ صبيحة يوم السادس والعشرين من كانون الثاني الماضي، بمجرد إعلان المحكمة قرارها بإعدام «21» من المتهمين في أحداث استاد بور سعيد المروّعة العام الماضي. وهو ما أسعد العديد من أهالي ضحايا مجزرة الاستاد وروابط مشجعي النادي الأهلي (أولتراس أهلاوي، وأولتراس ديفلز) لكونه أول قرار قضائي يتضمن الإعدام فى إحدى قضايا الثورة. لكنه في المقابل، أثار سخط الكثيرين إن لم يكن جميع أهالي بور سعيد، لإيمانهم بأن هذا القرار سياسي وتمت التضحية بمجموعة من الأبرياء من بور سعيد لامتصاص غضب الثورة والثوار. أحداث وضعت المدينة، التي لم يشارك منها طيلة أيام ثورة «25 يناير» سوى العشرات، على سكة الانفجار.
«الداخلية قتلونا وفي نعوشنا أهانوننا». اللافتة المرفوعة في أحد شوارع المدينة تلخص ما تكرر في شهادات جموع من مواطني بور سعيد حول أحداث الشهر الماضي.
العقل الجمعي لجماهير بور سعيد، استقر على أن هذه المحكمة ليست عادلة لأسباب عدة، أهمها أن عناصر الجريمة المتكاملة التي حدثت في استاد بور سعيد العام الماضي، تورطت فيها أجهزة الداخلية تورطاً كاملاً، لكنها لم تحاكم. بل جرى التضحية بالمتهمين الذين حكم عليهم بالإعدام ليس لتهدئة أولتراس أهلاوي فحسب، بل رغبة من النظام في تهدئة الثورة بأسرها، حسبما يقول الناشط البور سعيدي الشهير بـ«شيتوس». ويؤكد على ذلك أيضاً المواطن محمود أبو أدهم، الذي أشار إلى أن «المتهمين الذين قالت المحكمة بأنها قررت، وليس حكمت بإنزال أحكام الإعدام عليهم، منهم 5 فارين، و6 تم إعطاؤهم إخلاء سبيل قبلها، والآن يستدعونهم للإعدام، فهل هذا معقول؟». وأضاف «أحد المتهمين محمد سمير عطية مسجل في محضر الاتهام الخاص به أن تهمته الرشق بالطوب والحجارة، وجاء قرار الحكم الآن بالإعدام!».
وفي حين يعترف العديد من النشطاء والمواطنين بأنه تم استحضار أسلحة من قبل بعض العناصر أمام السجن وإطلاق النار عليه، تتباين الآراء في تحديد من أطلق النيران أولاً، ليبقى المهم الدم الذي سال أنهاراً من أجساد أبرياء تصادف وجود بعضهم أمام السجن. كما تواجد أغلب الضحايا بعيداً عن السجن بمئات الأمتار، لكن الرصاص طالهم أيضاً ولم يرحمهم.
ويؤكد عدد من الأهالي والنشطاء أنه كان من الممكن جداً معالجة الأمر لأن أهالي بور سعيد مع الأمن، ولأن العديد من ضباط السجن أصلاً بمن فيهم مدير قطاع السجون في قطاع مدن القناة بأكملها من بور سعيد ويعيش فيها. لكن رد الفعل المفرط في العنف من قبل عناصر الشرطة، والذي أدى إلى الإيقاع بضحايا يبعدون مئات الأمتار عن السجن الواقع في قلب المدينة والمحاط بمبانٍ سكنية شكل صدمة كبيرة على البور سعيديين.
ولأن العقلية الأمنية لم تتغير، فإن مواجهة القيادات الأمنية والمحيطين بهم بهذه الحقائق، لا تسفر في أحسن الأحوال إلا عن رد بعض العاقلين منهم بأن ما حدث «شر لا بد منه» بسبب موقع السجن وعدم إمكانية السماح باقتحامه. وهو ما يكشف بوضوح أن العقليات الأمنية لا تزال تولي الأهمية والأولوية للمباني وتضع حياة المواطنين وحتمية العمل على حمايتهم في درجات دنيا من اهتماماتها. وما ساهم في تأجيج غضب الأهالي ارتفاع أعداد الضحايا على مدى ساعات دامية ترافقت مع عدم استدعاء القوات المسلحة، التي لم تنتشر قواتها إلا صبيحة اليوم التالي. ويسود اعتقاد لدى الأهالي والنشطاء «أن الجيش (كان) يرغب في حدوث ذلك، ويتشارك في المؤامرة التي تعاقب أهالي بور سعيد جماعياً»، وأنهم ضحايا صراع سلطة ومناصب زائفة في القاهرة، في ظل عدم مبالاة بالدماء بل والسعي للمتاجرة بها.
وهو غضب سرعان ما ترجم في انتفاض المدينة لتشييع الضحايا في جنازة حاشدة تركزت فيها الهتافات ضد مرسي والداخلية ووصلت إلى حد مناداة البعض بـ«دولة بور سعيد».
يومها أيضاً سجّلت اشتباكات روى جزءاً مما دار خلالها الناشط «شيتوس» الذي تحدث عن أن الآلاف من الأهالي فوجئوا بإطلاق النار وقنابل الغاز على الجنازة. وعندما اكتشف الأهالي أن إطلاق النيران وقنابل الغاز من وزارة الداخلية كان يتم من فوق بعض مباني نوادي القوات المسلحة، رأوا أن القوات المسلحة تحالفت مع الداخلية. وعلى الأثر، عمد الأهالي الى اقتحام بعض هذه المباني وإضرام النار في الأجزاء التي أطلق المعتدون من أجهزة الدولة عليهم النار منها، تعبيراً عن غضبهم ليس أكثر».
يبقى أن ما يزيد من تعميق جراح جموع المحتجين في بور سعيد، ما يشاهدونه أيضاً على شاشات الإعلام، من إلصاق تهم لهم بالبلطجة وتعميم هذه التهمة على جموع المواطنين.