بيروت | جميعهم ينامون في غرفة صغيرة نسبياً لا تتجاوز مساحتها (3x4) متراً مربعاً، توزعت على جوانبها ثلاث فرشات. وفي الجانب الرابع عند الباب، وضعت طاولة صغيرة تحمل التلفاز. أما تحتها، فقد تكدس العديد من الحقائب السوداء. في الوسط، مساحة صغيرة ونظيفة بسطوا عليها «بطانيّة» قديمة، وعلى أحد الجدران علقت شماعة خشبية، تحمل حوالى عشرة معاطف تعود بالطبع للقاطنين الدائمين في هذه الغرفة!
قسرياً كل شيء تغيّر لديهم: البلد، مكان السكن، طريقة المعيشة، حتى ما كان طبيعياً وبديهياً لهم في سوريا، كحق العمل، أصبح حلماً صعب المنال هنا في بلد النزوح في لبنان، حيث يفرض القانون حرمان فلسطينيي سوريا، كونهم فلسطينيين، من ممارسة الكثير من الأعمال التي كانوا يزاولونها هناك بكل راحة، وبالتالي باءت كل محاولاتهم لتجاوز مرحلة النزوح والاعتماد على الآخرين في تأمين معيشتهم «مؤقتاً»، بالفشل. من هؤلاء محمد، البالغ من العمر (20) عاماً والهارب مع عائلته من مخيم اليرموك إلى منطقة البقاع اللبناني، ولأن «الحياة غالية في لبنان» وظروف المعيشة قاسية، كما أن الاعتماد على المساعدات القليلة أساساً هو أمر لم يألفوه سابقاً، من أجل هذا كله، قرر محمد، وهو خريج جامعي، البحث عن عمل كي يعيل نفسه وعائلته. ظن أن الأمر هيّن، فهو متسلح باختصاصين (خريج معهد تكييف وتبريد وهندسة شبكات الحواسيب)، لكنه بحث طويلاً في البقاع، وحين ظن أخيراً أنه عثر على ما يناسبه، فوجئ بخسارة هذا العمل فور تعرف رب العمل على هويته: «بس يعرفوني فلسطيني سوري بيبطلوا» قال لنا. وبعد يأسه من إيجاد عمل هناك، قال لأشُدّ الرّحال الى العاصمة، علّه يوفق بأي عمل كان ولو كان خارج اختصاصه. لكنه حتى الآن لا يبدو أنه توفق... يقول وقد ثقلت ملامحه بهمّ أكبر من عمره «أنا بحاجة إلى عمل لأستطيع تأمين معيشتي ومعيشة أهلي... هم يسكنون عند أقارب لنا في منزل صغير يتشاركونه مع عائلتين أيضاً».
أما رشاد، زميله في الغرفة والغربة معاً، فهو حاصل على شهادة البكالوريا وكان يستعد لدراسة الجامعة في دمشق، لكن نكبة المخيم دفعت والده الى حثّه على المغادرة، خشية عليه، فلحق بأقارب له في بيروت سبقوه الى النزوح بحوالى شهر، لكنه ما إن وصل، حتى وجد نفسه حملاً ثقيلاً كنازح، على عائلة نازحة بالأصل. هكذا قرر البحث عن عمل ليعيل نفسه وأقاربه، وبعد عملية بحث مريرة، وجد عملاً كعامل نظافة وتحميل بضائع في إحدى الشركات، وبحسبه: «رغم أن هذا العمل لا يتناسب مع شهادتي ولا اهتماماتي، لكني قبلته نتيجة الظروف»، ولكن المعاملة السيئة وساعات العمل الطويلة، إضافة إلى الراتب القليل، وشعوره بالاستغلال، كل هذا أجبره على ترك العمل صوناً لاحترامه لذاته. لا تزال المعاملة السورية للفلسطينيين حاضرة في ذهنه، يحاول تقديم مقارنة بين ظروف العمل هناك ومثيلتها في لبنان، قائلاً: العمل في سوريا كان متاحاً ولائقاً لنا، ولكن القانون في لبنان وظروف النزوح حرمتني هذا الوضع الطبيعي»!. ويضيف معاتباً «عندما أتى اللبنانيون إلى سوريا خلال حرب تموز، ووصلوا إلى المخيم، لم نميّز بينهم على الإطلاق، حتى إننا كنا نتقاسم طبخات المنزل مع إحدى العائلات النازحة منهم، من دون أن نسأل عن جنسيتهم، أكانوا فلسطينيين أم لبنانيين، وقد وفّرنا جميع احتياجاتهم في أزمتهم، ولم يضطر أحد منهم إلى البحث عن عمل، ولنا الفخر بأنه في مخيمنا لم تنصب خيمة واحدة لهم».
بالطبع، قد يكون إيجاد عمل للنازحين الفلسطينيين من أصحاب الشهادات أكثر صعوبة من عمل أصحاب المهن، في ظل القوانين الظالمة بحقهم وحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ولكن إيجاد عمل أيضاً مسألة ليست سهلة على الإطلاق. فالظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها لبنان، وتزايد أعداد طالبي العمل من النازحين السوريين المسموح لهم بالإقامة والعمل على أراضيه، تجعل المنافسة عسيرة للفلسطينيين النازحين حتى في مجال المهن التي ترتكز على القوى العضلية في العمل. وهكذا تكون فرصتهم ضئيلة جداً إن لم تكن معدومة، إضافة إلى إمكان تعرضهم للمساومة أو الابتزاز في أجرة العمل وطبيعته من قبل رب العمل إن وجدوه. ولعل الاعتصامات المتزايدة، التي يقوم بها هؤلاء أمام مراكز الأونروا، خير دليل على سوء أوضاعهم المعيشية، بعدما أصبحوا هاربين من الموت إلى شبه حياة، أقل ما يمكن وصفها بأنها قاسية، واقعين بين مطرقة تبرؤ الدولة اللبنانية منهم، وسندان إهمال الأونروا حمايتهم في مخيمات سوريا أولاً، وتقصيرها ثانياً في تأمين الدعم الكافي لهم كي يحصلوا على حياة بسيطة وكريمة في نزوحهم. هذه الحياة التي من الصعب تأمينها بأنفسهم نتيجة الواقع المرير الذي يعيشونه، ولعل الشيء الوحيد الذي يطلبونه من الدولة اللبنانية هو مساواتهم بغيرهم من النازحين السوريين، ريثما تهب رياح حلّ حقيقي للصراع في سوريا، ربما سنشهد اعتصامات لهؤلاء على أبواب مراكز الأونروا للمطالبة بدل الدعم... بفرصة عمل!



الجدير ذكره أن اللاجئ الفلسطيني في سوريا يعامل معاملة المواطن السوري في الحقوق والواجبات، وفق الدستور السوري، باستثناء حق الانتخاب، حمايةً لهويته وحقه بالعودة إلى بلاده، ويعتبر القانون رقم (260) لعام 1956، الذي أقره مجلس الشعب السوري منذ أكثر من نصف قرن، أهم هذه القوانين ولا يزال معمولاً به حتى اليوم، بينما الواقع الذي فرض على اللاجئ الفلسطيني في لبنان، حرمه من أبسط الحقوق التي كان يتمتع بها في سوريا، وهو الحق بالعمل بشكل شرعي في مختلف المجالات، إضافة إلى جملة من الحقوق المدنية التي تساويه إلى حد شبه كامل مع حاملي الهوية السورية.