حبيبي جدار الصوت
عندما تختبرين الحرب لأكثر من 10 سنوات يا عزيزتي، فإن كيانك كله يتغيّر، ثقافتك تتغيّر، إحساسك يتغيّر، وقلق الليل يطول. أنا تغيّرت كثيراً. لا أشبه نفسي في الماضي كثيراً. لم أعد أحب نفسي كثيراً. هل تشعرين بالأسى لو أخبرتك أنني، بعد أكثر من 5 سنواتٍ على آخر خرق لـ«جدار صوت» سمعته، أشتاق لهذا الصوت؟ للقشعريرة التي تصيبني، أشتاق للنظر إلى السماء وأنا أراقب الطائرات الحربية تحلق فوق سطح بيتنا، ترسم خطوطاً في الهواء، تستفزّني، تحاول إخافتي، فأستفزّها في عقلي الباطني «لن تجرؤ، لن تقصف»، فيخرق جدار الصوت ويغادر، وأخرق جدار الصمت بسبّة «قوية!».
ليومين على التوالي، وأنا أسمع صوت الطائرات الحربية الإسرائيلية وهي تحلق في أجواء بيروت، لوهلة كنت أفكر أنني أتخيل الصوت، ذلك أن أي وسيلة إعلامية لم تورد خبرها المعتاد (حلّقت طائرات للعدو فوق لبنان على طول الساحل، منتهكة القرار رقم 1559، وقد رفع ممثل لبنان لدى الأمم المتحدة شكوى إلى الأمين العام)، لكن زميلتي في العمل قطعت الشك باليقين وسألت «شو هيدا الصوت؟». أجبت ببرود «طيران حربي». لا أظنّ أن زميلتي سمعت صوت الطيارات الحربية من قبل، أكاد أجزم أنها اصفرّت خوفاً، حتى نبرة صوتها تغيرت «ما تقولي هيك... هيدا طيران مدني». حسناً، لتقنع نفسها بما تشاء، إن أرادته طيراناً مدنياً فليكن، لست أنتظر من أحد أن يميز أصوات الآليات الحربية كما اعتدت، فإن لم أسمع صوت طيارة حربية في الجنوب أيام العطل أشعر بالريبة، فمن منا يستحق تعاطف الناس؟ أنا التي تستمع إلى الاشتباكات بالأسلحة المتوسطة والثقيلة في زواريب حيّ شعبي تسكنه، أنا التي أخرج إلى شرفتي لأتفرّج، أنا التي يتصل بها الناس ليشددوا عليها بأن لا تخرج، أم هي التي لم تختبر أبداً الحرب؟
لأكثر من عشر سنوات يا عزيزتي وأنا أعرف الحرب. انتهت الحرب، ومع ذلك حتى اليوم لا أنام كثيراً. سهري في الليل ليس شكلاً من أشكال التضامن مع الذين لم يدركهم النوم بسبب صوت المدافع والصواريخ. لحظة، تذكرت ليالي كثيرة، لم أنم جيداً وقتها بسبب الإنزال الإسرائيلي. شكراً لكل من سهر لأجلي تضامناً معي حينها! سهري في الليل، قلق مزمن، مرض مستفحل، سببه ربما الحرب؟ من قال إنها انتهت؟
إيمان بشير

يحسبوننا بالسعرات الحرارية

غارة جوية تأتي وأخرى تذهب. وأنا أضحك كلَّما سمعتُ انفجارا أو قصفاً، وأضحك أكثر حين أسمع صوت الإسعاف يدوّي خلف القصف مباشرة! لماذا؟ لا أعرف! لا شيء يُخيفني، وربما من شدة الخوف ضحكت. لا أفكر في تفسير ولا أبحث عنه، لكن يُحزنني أنني وصلت إلى حالة كهذه.
في الحرب أيضاً، كنت متبلدة المشاعر، ولم يكن يُفاجئني استشهاد أو إصابة أحد. حتى أقاربي، لا أدري ما اسم هذا الذي يحدث؟ لفرطِ الوجع، لم يعد بإمكاننا ممارسته بذات الانفعال، فأفتح الإذاعة على أغان ثورية صاخبة، وأحتفل بالإنسانية التي لم يعد لها مكان: قتل هنا وفي كل مكان. نتفرج على الأخبار، في حين نتناول وجبة عشاء باردة. لنكن من المُتابعين للوضع الإقليمي، وماذا بعد؟
نُغيِّر عن قناة «الهم والنكد» إلى قناة كوميدية، ونظن أننا نمنح لأنفسنا الحياة التي حُرِم منها آخرون!
كانت قريبتي تسأل شقيقتها أمس «عندكم قصف بالجنوب؟ والله ما عارفين ننام من صوت الزنّانة، مش خلصوا قصف؟ ليش الزنانة باقية فوق راسنا؟ وكأنّ الصوت هو كل ما يُقلقنا ويُزعزع مناماتنا. أما من يموت فهذه مهمة الإسعاف والتابوتيّ! للأسف!
وهل الحرب أصوات انفجارات فقط؟ لا، الحرب أكثر من ذلك. كل يوم نخوض حروباً مع النوم. ومع تجاهل كل ما ينقصنا، كيف بالإمكان أن نغمض أعيننا ولا تمرّ قذيفة تُفتِّتُ جسداً؟ أو خبراً عن عشرات من الجرحى والقتلى؟
ولا يأتي النوم، وأنا أُفكر من سيكون فقيد الغد؟ وكم بيتاً سينهار فوق رؤوس أصحابه؟ وكم طفلاً سيُحاول أن يسدّ أُذنيه بيديه؟ وفي الصباح أهزأ من أفكاري، وأعرف أن ثمة من فارق الحياة تلك الليلة، وآخرين بكوا، وآخرين احتاروا لأي عزاء يذهبون أولاً، إلا أنني أعرف أيضاً؛ أننا بالقوة التي بإمكانها إبقاءنا هنا.
في الحرب، يا عزيزتي، كانوا يحسبوننا بالأرقام، والآن في وثيقة إسرائيلية رسمية: نُحسبُ بالسعرات الحرارية! نعم، لا ترفعي حاجبيكِ، ولا تستنكري، تدخل المواد الغذائية إلى غزة بحسبِ السعرات الحرارية التي يحتاج إليها كل غزيِّ. انظري إلى فرطِ الاهتمام بنا! وتقولين نسهر تضامناً؟
أماني شنينو