اسطنبول | كما هو الحال بالنسبة للعديد من العواصم الدولية والإقليمية، فقد كانت أنقرة أيضاً ضمن المفاجئين بتصريحات رئيس الائتلاف المعارض أحمد معاذ الخطيب، الذي قال إنّه على استعداد لمحاورة النظام في دمشق من أجل الحلّ السلمي للأزمة السورية. الجميع يعلم الدور الذي لعبته أنقرة لانتخاب الخطيب رئيساً للائتلاف، خلال اجتماعات الدوحة. وكانت تركيا، أيضاً، الحاضن الأول والأساسي للمجلس الوطني السوري الذي تأسـس في اسطنبول بعد أن استضافت تركيا العديد من الفعاليات العلنية والسرية للمعارضة السورية منذ الاجتماع الأول لها في آب عام2011 في مدينة أنطاليا.كما تحدث الاعلام باستمرار عن احتضان تركيا لمخيمات الجيش السوري الحر، حيث شكت واشنطن من التسهيلات التي قدمتها أنقرة، ومازالت، للمسلحين من مختلف أنحاء العالم لدخول سوريا عبر الحدود المشتركة وهو ما ساهم في تشكيل الجماعات المتطرفة التي لعبت وتلعب دوراً أساسياً في الحرب الدموية المستمرة.
ورفضت أنقرة منذ البداية، وعلى لسان رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، الحوار مع الرئيس بشار الأسد وطالبت برحيله أو اسقاطه بأيّ ثمن كان بالنسبة لها أو بالنسبة للمعارضة السورية والشعب السوري. وجاءت تصريحات الخطيب لتضع حكومة أردوغان أمام خيارات وتناقضات صعبة ومعقدة جداً، حيث اضطر أردوغان للسفر إلى قطر، فوراً، بعد يوم من تصريحات الخطيب لبحث سبل وامكانات التنسيق والتعاون المشترك لمواجهة احتمالات المرحلة المقبلة في ما يتعلق بتصريحات الخطيب، والرد السوري المحتمل عليها خاصة بعد أن التقى وزيرا الخارجية الروسي والإيراني، وسبق ذلك لقاؤه مع نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي عبّر بدوره عن تأييده لموقف الخطيب.
وجاء الرد سريعاً من أنقرة على لسان أحمد داوود أوغلو، إذ كرّر رفض بلاده لأيّ حوار مع النظام في دمشق داعياً الخطيب والائتلاف السوري للاستمرار في نضاله من أجل اسقاط النظام، في الوقت الذي تحدثت فيه المعلومات الصح فية عن خلافات تركية ــ قطرية ــ سعودية في هذه المسألة، خاصة بعد تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند التي أعلنت تأييد واشنطن لتصريحات الخطيب، الذي اقترح اسم فاروق الشرع للحوار، وهو الاسم الذي سبق أن اقترحه داوود أوغلو لقيادة المرحلة الانتقالية بعد رحيل الأسد.
علماً أنّ أنقرة لم تكن ترتاح للشرع عندما كانت علاقاتها جيدة مع دمشق، ظناً منها أن الشرع كان ضد التقارب السوري ــ التركي.
وتضع كل هذه المعطيات أنقرة أمام تحديات صعبة، لأن قيادتها راهنت على سقوط الأسد، ولعبت دوراً ريادياً في مجمل المخطّطات السرية والعلنية التي استهدفت النظام السوري، في الوقت الذي كان فيه زعيم المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو يفضح السياسة التركية ويتهم حكومة أردوغان بأنّها أداة بيد أميركا والغرب لتدمير سوريا والمنطقة بأكملها. وتضع المعطيات الأخيرة العلاقة بين أردوغان والمعارضة، أيضاً، أمام تحديات جدية خاصة إذا فشلت أنقرة في عرقلة مساعي الحوار المدعوم من روسيا وإيران، وربما أميركا، والتي قد تؤدي إلى انفراج نسبي في العلاقة بين المعارضة والنظام في دمشق. حينها سيجد أردوغان نفسه أمام وضع صعب لا يحسد عليه، لأنّه إما أن يستمر منفرداً في دعم المعارضين لنهج الحوار أو يضطر للتراجع عن كل تصريحاته ويوقف الدعم السياسي والتسليحي للمعارضة السورية.
وسيعني ذلك، في نهاية المطاف، احتمالات المواجهة بين هذه المعارضة المسلحة المتمثلة بالجماعات المتطرفة، التي لن تقبل الانسحاب من سوريا بالسهولة التي دخلت فيها عبر الحدود التركية. كلّ ذلك في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أنّ فشل السياسة التركية في سوريا سيعني فشل السياسة التركية الداخلية أيضاً، لأنّ أردوغان وداوود أوغلو يعتبران سوريا بوابة أنقرة الجديدة إلى المنطقة، كما دخل أجدادهم العثمانيون العالم العربي عبر سوريا بعد معركة مرج دابق عام 1516. فهزيمة السياسة التركية في سوريا ستخلق لهذا الثنائي العديد من المشاكل في العلاقات الاقليمية خاصة مع قطر والسعودية.
ويعرف الجميع تناقضاتهما في ما يتعلق بحركة الاخوان المسلمين في مصر والمنطقة العربية عموماً، خاصة بعد الحملة الاعلامية، التي تتبناها وسائل الاعلام السعودية والإماراتية ضد الاخوان ودورهم الخطير المحتمل في المنطقة. وهذا الهجوم على الاخوان سيعني في نهاية المطاف استهداف تركيا الحليف الاستراتيجي للاخوان العرب في مصر وتونس وليبيا، خاصة بعد فشل المشروع التركي في إيصال الاخوان إلى السلطة في سوريا. هذا الفشل في سوريا سيحمل معه العديد من المفاجآت السياسية التركية الداخلية، حيث يسعى أردوغان لأسلمة الدولة والأمة التركية عبر مشروعه المعروف داخلياً للتخلص من ارث الجمهورية الأتاتوركية العلمانية. على أن يبقى الرهان على مستقبل العلاقة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي الذي يعرف الجميع أنه يتصيد الفرص للتخلص من تركيا، خاصة بعد تصريحات أدروغان الذي راهن على انتصاره في سوريا، وعبرها في العالم العربي والاسلامي، كما استهدف أوروبا في العديد من خطاباته ظناً منه أنه قد حقق انتصارات استراتيجية في العالم العربي.
وهو ما أفشل مخططات أردوغان لتحويل تركيا إلى نموذج سياسي وعقائدي بدعم من واشنطن والعواصم الغربية، التي لم يعد البعض فيها يخفي عدم ارتياحه من طموحات الثنائي أردوغان ــ داوود أوغلو، ويبدو أنهما قد نسيا أنّ ذكريات العثمانيين ما زالت حية في أذهان الكثير من الأوروبيين المسيحيين والعرب المسلمين، والأهم من ذلك اليهود الذين يصطادون في الماء العكر لإعادة تركيا إلى حظيرة التحالف الاستراتيجي التقليدي مع إسرائيل.